كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 31)

"""""" صفحة رقم 149 """"""
نفقة صغيرة ولا كبيرة ، ولا يقطعون وادياً . فلم يكن بأسرع من أن طار إليهم الحمام ، في أجنحة السهام . وخضّبت الأحجار تلك الغادة العذراء للضرورة ، وللضرورات أحكام . وأزالت النقابة عنها نقاب احتشامها . ودبّت في مفاصلها دبيب السقم في عظامها ، مع أنها مستقرة على الصخر الذي لا مجال فيه للحديد ، ولكن الله أعز بالنصر سلطاننا فجاءت أسباب الفتح على ما يريد . وأقيمت المجانيق المنصورة أمامها فأيقنوا بالعذاب الأليم ، وشاموا بروق الموت من عواصف أحجارها التي ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم . وساهموها صلاة الخوف ، فلسهامهم الركوع ، ولبروجهم السجود ، ولقلعتهم التسليم . ولم تزل تشن عليهم غارة بعد غارة ، وتسقيهم على الظمأ صوب أحجارها ، وإن من الحجارة ، وهي مع ذلك تظهر الجلد والجد ، وتغضب غضب الأسير ، على القد . وتخفي ما تكابد من الألم ، وتشكو بلسان الحال شكوى الجريح إلى العقبان والرخم ، إلى أن جاءت من الأنجاد ما كانوا يأملون . وسطت مجانيقهم فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون . وكلما سقطت أسوارها ، وتهتكت بيد النقوب أستارها ، وتوهم الناظر أنها هانت ، رآها المباشر في تلك الحالة أشد ما كانت ، وثبتت على الرمي والارتماء ، وعزّت على من اتخذ نفقاً في الأرض أو سلّماً في السماء ، واستغنت بمكان السور ، وانقضت أحجارها على أسوار الحرب انقضاض النسور .
وكان الفتح المبارك في صباح يوم السبت ، حادي عشر رجب الفرد ، سنة إحدى وتسعين وستمائة بالسيف عنوة . فشفت الصوارم من أرجاس الكفر العلل بقمع العدى وكبتها . وسطا خميس الأمة يوم السبت ، على أهل يوم الأحد ، فبارك الله بخميس الأمة في سبتها .
فليأخذ القاضي من هذه البشرى ، التي أصبح الدين بها عالي المنار ، بادي الأنوار . ضارب مضارب دعوته على الأقطار ، ذاكراً بموالاة الفتوح أيام الصدر الأول من المهاجرين والأنصار . وليشعها على رؤوس الإشهاد ويجعلها في صحف الفتوح السالفة بمنزلة المعنى في القرينة والمثل في الاستشهاد . ويمدّ الجيش بهمته التي ترهف

الصفحة 149