كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 31)
"""""" صفحة رقم 171 """"""
وصل الصاحب إلى الاسكندرية ، ضيق على أهل الثغر ، وشدد عليهم الطلب . وعزم على مصادرة أعيانهم ، وذوي الأموال منهم . وأمر بإيجاد مقارع لعقوبة أهل الثغر . فبقي الناس من ذلك في شدة عظيمة ، لا يرجون خلاصاً إلا ببذل الأموال والأبشار ؛ وأهان متولي الثغر .
فبينما الناس على مثل ذلك ، إذ وقعت بطاقة لمتولي الثغر ، في عشية النهار ، تتضمن خبر مقتل السلطان . فكتمها المتولي عن الصاحب وغيره ، وصبر إلى أن دخل الليل ، وجاء إلى باب الصاحب ، واستأذن عليه ، فأذن له . فوقف بين يديه على عادته . فقال له الصاحب : ما الذي جاء بك في هذا الوقت ، هل ظهرت لك مصلحة يعود نفعها ؟ فقال : يا مولانا ، لم يخف عن علمك أن أهل هذا الثغر غزاة مرابطون ، وما قصد أحد أذاهم ، فتم له مقصوده ، والذين يراه المملوك ، أن يحسن مولانا إليهم ، ويطيب خواطرهم ، ويفرج عنهم - هذا اللفظ أو معناه - فسبه الصاحب أقبح سب . وهم أن يوقع به ، والوالي لا يزيده أن يقول : مولانا يروض نفسه ، فلا فائدة في هذا الحرج . والصاحب يزيد في سبه ، والإغلاظ له ، ويتعجب من إقدامه على مخاطبته بمثل هذه الألفاظ . فلما أفرط الصاحب في سبه ، وزاد به الحرج ، تقدم إليه بالبطاقة . وقال يقف مولانا على هذه . فلما قرأها ، سقط في يده ، وخاطبه بياخوند . فقال له المتولي : ما الذي تختار . فقال : الخروج من هذه الساعة . فلم يؤاخذه المتولي ، بما صدر منه في حقه وفتح له باب المدينة ، وأخرجه وعرض عليه أن يجهز معه من يوصله القاهرة فامتنع . وخرج من الثغر في ليلته . ولو أصبح به لقتله أهله . واستمر به السير إلى أن وصل القاهرة ليلاً . فبات بزاوية الشيخ جمال الدين ابن الظاهري ، ولم ينم في معظم الليل . وركب بكرة النهار من الزاوية ، وجاء إلى داره ، وهو على هاله وهيئته . وحضر للسلام عليه القضاة وأعيان الدولة ونظارها . فعاملهم بما كان يعاملهم به من الكبر ، وعدم القيام لأكابرهم . ثم استشار بعض الناس فيما يفعل ، فأشار بعضهم عليه بالاختفاء إلى أن