كتاب نهاية الأرب في فنون الأدب ـ العلمية (اسم الجزء: 31)

"""""" صفحة رقم 268 """"""
يقول : " ومن يتولّهم منكم فإنه منهم " .
وحيث جعلتم هذا ذنباً ، موجباً للحمية الجاهلة ، وحاملاً على الانتصار ، الذي زعمتم أن همتكم به ملية ، فقد كان هذا القصد ، الذي ادعيتموه ، يتم بالانتقام من أهل تلك الأطراف ، التي أوجب ذلك فعلها ، والاقتصار على أخذ الثأر ممن ثار اتباعاً لقوله تعالى : " وجزاء سيئة سيئة مثلها " ، لا أن تقصدوا الإسلام بالجموع الملفّقة ، على اختلاف الأديان ، وتطأوا البقاع الطاهرة بعبدة الصلبان ، وتنتهكوا حرمة البيت المقدس ، الذي هو ثاني بيت الله الحرام ، وشقيق مسجد رسول الله ، عليه الصلاة والسلام . وإن احتججتم أن زمام الغارة بيدنا ، وسبب تعدّيهم من سُنّتنا . فقد أوضحنا الجواب عن ذلك ، وأن عدم الصلح والموادعة ، أوجب سلوك هذه المسالك . وأما ما ادعوه من سلوك سنن المرسلين واقتفاء آثار المتقدمين ، في إنفاذ الرسل أولاً ، فقد تلمحنا هذه الصورة ، وفهمنا ما أوردوه من الآيات المسطورة ، والجواب عن ذلك أن هؤلاء الرسل ما وصلوا إلينا إلا وقد دنت الخيامُ من الخيام ، وناضلت السهام السهام ، وشارف القومُ القوم . ولم يبق للقاء إلا يوم أو بعضُ يوم ، وأشرعت الأسنّة من الجانبين ، ورأى كل خصمه رأي العين . وما نحن ممن لاحت له رغبة راغب ، فتشاغل عنها ولهى ، ولا ممن يُسالم فيقابل ذلك بجفوة النفار ، والله تعالى يقول : " وإن جنحوا للسلم فاجنح لها " . كيف والكتاب بعنوانه . وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، يقول : " ما أضمر إنسان شيئاً إلا ظهر ، في صفحات وجهه وفلتات لسانه " .
ولو كان حضور هؤلاء الرسل والسيوف وادعةٌ في أغمادها ، والأسنة مستكنّة في أعوادها ، والسهام غير مفوقة ، والأعنة غير مطلقة ، لسمعنا خطابهم وأعدنا جوابهم .
وأما ما أطلقوا به لسان قلمهم ، وأبدوه من غليظ كلمهم في قولهم : فصبرنا على تماديكم في غيكم ، وإخلادكم إلى بغيكم . فأيّ صبر ممن أرسل عنانه إلى المكافحة ، قبل إرسال رسل المصالحة ، وجاس خلال الديار قبل ما زعمه من الإنذار والأعذار وإذا فكروا في هذه الأسباب ، ونظروا فيما صدر عنهم من خطاب ، علموا العذر في تأخير الجواب ، وما يتذكر إلا أولو الألباب .
وأما ما تحججوا به مما اعتقدوه من نصره ، وظنوه من أن الله جعل لهم على حزبه الغالب في كل كرةٍ الكرة . فلو تأملوا ما ظنوه ربحاً ، لوجدوه هو الخسران المبين .

الصفحة 268