كتاب زكي المحاسبي المربي الأديب والشاعر الناقد

الفنون في النثر العربي، ويدخل على الجملة العربية الحرة ما يقيدها من السجع
المجذوب المستكره، حتى كادت ديباجة كتاباته تكون مثل طنفسة فارسية ذات
وشي وزركشة من كل جانب، وكان ابن العميد غزير المعارف إذا سافر حمل
معه مكتبة على دواب لتكون كتبه إلى جانبه في كل مكان يحل فيه وقد كتب
رسائل كثيرة كلها تلاعب لفظي وصناعة تركيبية تضجُّ معانيها الحبيسة في
هياكلها الموحشة، وقد شاع فنه هذا بين مواطنيه في ظلال حكم عضد الدولة
البويهي، وملأ المجالس البغدادية حتى عرف بسيد كتاب قومه، واحب أ ن
يعبث بأبي الطب نفسه، فأخذ ينقد له شعره وقد قبل المتنبي بنقده لكونه غريباً
في بلده، وتد سايره، وهو الذي يأبى أن يكون لأحد من البشر حكم عليه حيث
يقول:
تفزَدَ لا مستعظِماً غيرَ نفسِه
ولا قابِلاً إلا لخالقِهِ حُكْمَا
وإني لمن وراء العصور أعجب له، كيف قبل نقد ابن العميد لشعره وفي
ذلك يومئذ غلب للعجم على العرب، وكيف اعترف له بنقده في قوله:
ما كفاني تقصيرُ ما قلتُ فيه عَنْ عُلاهُ حتّى ثنَاه انتقادُه
وأما الثاني فهو دون ابن العميد في القدرة الفكرية والروح الطيبة وهو
(الصاحب بن عباد) الذي اذاق أدباء عصره وبخاصة العرب منهم مرائر في
حرمانهم من جوائزه الأدبية، التي كان يغريهم بها، فيشدون إليه رواحلهم،
ويسيرون إليه عبر الصحارى الليلَ والنهارَ، فإذا صاروا إليه حجبهم زمناً دون أ ن
يسمح بمثولهم في مجلسه، وإذا مدحوه عاب شعرهم، وردهم بلا مكافأة،
وكان هذا ديدنه، ولست اشك بأنه كان مصاباَ بانحراف نفسي، وأنه كان مريضاً
بإيذاء الأدباء ورجال الفكر، ويحدثنا من وراء العصور الكاتب العظيم أبو
حيان التوحيدي التهاويل عن الصاحب بن عباد وما صنع به حتى راح يؤلف فيه
كتاباَ خالداَ بمثالبه.
137

الصفحة 137