كتاب ناصر الدين الأسد العالم المفكر والأديب الشاعر

حداثة التناول وعصرية المعاني، ثم انقطع عن قول الشعر وعن إنشاده مرة
واحدة، كأنْ لم يكن منه شيء.
وكذلك لا يقتصر علمه على هذا الأسلوب الفريد، الذي لا تخطئ فيه
شخصية كاتبه، مهما يكن الموضوع، فهو يصرخ دالاً على صاحبه، وتنبض كل
عبارة فيه بأصالة الكاتب وتفزُده.
ويبين الأسد أن علمه لا يقتصر على أمرِ من هذه الأمور وحده، يقف عند5
وينتهي إليه، إنما هو كل ذلك معاً في آن، ثم إن فوق ذلك أمراَ آخر لا يظهر
تفصيله في كتاب من كتبه، ولا يعرفه إلأَ مَن عايشه معايشة ناصر الدين الأسد
إياه، وتتلمذ له كما كان سنوات طوالاً: ذلك الأمر هو بَصَرٌ نافذٌ عجيبٌ في تراثنا
الشعري، يكاد يخترق أسداف الماضي، فيرى من خلالها صورة الشاعر العربي
القديم وهو ينطم قصيدته، ويحسن بما يعتلج في حناياه من لواعج، ويضطرب
في أعماقه من اشواق، فيتابعه نَفَساً نفساً، وينظر فيما وصلنا من شعر إختلف
ترتيب أبياته في الروايات المتعددة، فيعيد ترتيبه على الصورة التي يُخيل إليك
معها، أن ابيات القصيدة كانت عند شاعرها القديم على هذ 5 الصورة الجديدة،
ولأن النَسَق الشعري والوِحدة الفنية يقتضيان هذا التتابع، وهو في هذا الجهد
الذي يقوم به يمثلى ولادة القصيدة مرة ثانية، وترى عليه - حين يمثل ذلك في
دروسه من أمارات الانفعال والذهول، ما تحسب معه أنه هو الشاعر القديم
صاحب هذه القصيدة، إنما غئم على الرواة أمرها لتشابهها في الموضوع والبحر
والقافية، فاندشَت هذه الأبيات وهي ليست منها، ثم يقدّم بيتاَ أو مجموعة أبيات
ويؤخّر بيتاً فيضعه بين أبيات أخرى، ويغيّر لفظة هنا ولفظة هناك، ويضع في
مكانها لفظة وجدها في رواية أخرى، فضلها على الأولى بحدسه الذي يحملك
على أن تستسلمَ له وتقزَ بأن ما يفعل هو الصواب.
وينبّه على عادة الانقطاع عن إنجاز العلاّمة محمود محمد شاكر مؤلفاته
وتحقيقاته، وتراخي الوعود عنده في ذلك، كفعله في كتاب (إمتاع الأسماع)
للمَقْريزي، الذي حقق الأول منه سنة 1941 م، وانقطع عنده، وكفعله في
37

الصفحة 37