كتاب عبد الله بن الصديق الغماري الحافظ الناقد

عباده إلا ليتعبدهم بالأمر والنهي، وليردهم إليه بعد فنائهم ليجزيهم على
أعمالهم، فذكر في هذه السورة جملة من الأوامر والنواهي التي تعبَّدهم بها،
وأشار في مفتتحها إلى البعث. . . إ لى أن قال: تضفَنت السورة وجوب حد الزنا
والقذف، ووجوب تصون المراة، وعدم إبداء زينتها إلا لأفراد معدودين،
ووجوب غض البصر من الرجال والنساء عما لا يحل، وحرمة دخول منازل
الأجانب إلا باستئذان، وبيان كيفية الاستئذان في هذا، وفي دخول الخدم على
مخدوميهم، والأولاد على آبائهم وأمهاتهم، وإباحة الاكل من بيوت الأقارب
والأصدقاء، وغير هذا مما يدخل في تنطيم الأسرة وآداب السلوك.
والسورة تشير بهذ 5 الأحكام إ لى أنه لا يجوز أن يعيش المؤمنون في عَبَثٍ
وفوضى كما كان الحال في الجاهلية، بل يجب أن يكون مجتمعهم أفضل
المجتمعات، أنسابهم محفوظة من التلويث، وأعراضهم مصونة، موفورة
الكرامة، وعلاقة بعضهم ببعض، أفراداً وجماعات مبنية على العفاف والتصوُّن
والاحترام، وكل هذا يؤكد الرد على ظن المشركين أنهم خلقوا عبثاً لا لحكمة.
ومن لطائف ما علَّق به على مناسبة سورة (القلم) قوله: نزلت هذ 5 السورة
بعد سورة العلق، فهي ثاني سورة نزلت من القرآن الكريم، وكان اتجا5
المشركين إذ ذاك إلى رمي النبي مج! ي! بالجنون، لأنهم اعتبروا ما بدئ به من
الوحي جنوناً طرا على عقله، فلهذا جاءت فاتحتها مصزَحة بنفي الجنون عنه
عليه الصلاة والسلام، ولم يأت حديث عن القران، لأنه لم يكن نزل منه ما يدعو
إلى الحديث عنه، فهذ 5 - والله اعلم - حكمة عدم ذكر ما يتعلق بالقراَن، بعد
حرف (ن) على أنه ذكر القلم والكتابة لأنه معنى (يَسْطرون)، يكتبون إ شارة إ لى
القراَن الذي سينزل وسيكتب.
ويقول في (سورة النصر): لما أيأس الله نبيه ع! ي! من الكفار والمنافقين،
وقطع كل صلة بينه وبينهم فيما يتعلق بعبادة الله وتوحيد 5، بشَره هنا بمجيء نصر
الله وفتحه، وبانتشار دينه ودخول الناس فيه أفواجاً، وهذه مناسبة ظاهرة، والله
تعالى أعلم.
83

الصفحة 83