كتاب روايات الجامع الصحيح ونسخه «دراسة نظرية تطبيقية» (اسم الجزء: 1)

أعفيناك منه.
قال ابن خلاد: سألت أبا عبد الله الزبيري عن هذا، فقال: لا يجيء في هذا الباب حكم أحسن من هذا، لأن خط صاحب الكتاب دال على رضاه باستماع صاحبه معه.
قال ابن خلاد: وقال غيره: ليس بشيء (¬1).
وروى الخطيب الحافظ أبو بكر، عن إسماعيل بن إسحاق القاضي: أنه تحوكم إليه في ذلك، فأطرق مليًّا، ثم قال للمدعى عليه: إن كان سماعه في كتابك بخطك فيلزمك أن تعيره، وإن كان سماعه في كتابك بخط غيرك فأنت أعلم (¬2).
قلت: حفص بن غياث معدود في الطبقة الأولى من أصحاب أبي حنيفة، وأبو عبد الله الزبيري من أئمة أصحاب الشافعي وإسماعيل بن إسحاق لسان أصحاب مالك، وإمامهم وقد تعاضدت أقوالهم في ذلك، ويرجع حاصلها إلى أن سماع غيره إذا ثبت في كتابه برضاه فيلزمه إعارته إياه، وقد كان لا يتبين لي وجهه، ثم وجَّهتهُ بأن ذلك بمنزلة شهادة له عنده فعليه أداؤها بما حوته، وإن كان فيه بذل ماله، كما يلزم متحمِّلَ الشهادة أداؤها، وإن كان فيه بذل نفسه بالسعي إلى مجلس الحكم لأدائها، والعلم عند الله تعالى.
ثم إذا نسخ الكتاب فلا ينقل سماعه إلى نسخته إلا بعد المقابلة المرضية.
وهكذا لا ينبغي لأحد أن ينقل سماعًا إلى شيء من النسخ، أو يثبته فيها عند السماع ابتداء إلا بعد المقابلة المرضية بالمسموع؛ كيلا يغتر أحد بتلك النسخة غير المقابلة؛ إلا أن يبين مع النقل وعنده كون النسخة غير مقابلة (¬3)
¬_________
(¬1) «المحدث الفاصل» ص: 589 فقرة 838.
(¬2) «الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع» 1/ 241 (481).
(¬3) قلت: ولإثبات السماع أو القراءة على المخطوط أثر بالغ في توثيق المروي، وخاصة بعد أن أصبح الاعتماد في نقل السنة على المصنفات التي يراد منها جمع ما تفرق في الصحف والأجزاء والنُّسخ، فانصرف العلماء إلى ضبط هذه المصنفات والتحري في نقلها، واستُخْدِمتْ مجالسُ التحديث وسائل لهذا الضبط ببيان من قرئ عليه الكتاب أو تلقي منه، ومن تولى ضبط ذلك المجلس ومن شارك فيه، ومن تولى القراءة وأين كان ذلك، ومتى وما القدر المقروء أو المسموع، وهل شارك الجميع في هذا القدر ... إلى غير ذلك مما يعد وثيقة تاريخية.
ويتحقق بإثبات السماع والقراءة على المخطوط ما يلي:
أولًا: الإفادة بأن مضمونها قد سمع في حلقة سماع على شيخ معروف بتخصصه في فن يتعلق بموضوع النسخة، وهذا يمنح المخطوط ثقة في صحة مادته ونصه، وذلك بقراءته على الشيخ ومذاكرة الأقران، وتصحيح السامع سواء كان ذلك ناسخًا أم مقابلًا، والسماعات والقراءات المثبتة بعد كل ذلك تعين المعنيين بتواريخ المخطوط على تحديد تاريخه في حالة إغفاله، وهي بعد ذلك تكشف لنا عن قيمة المخطوط ومدى اهتمام الناس به في عصره وبعد عصره، بل ومدى الثقة به وبمؤلفه، وهي في آخر الأمر تعطينا صورة للحركة العلمية، ومدى انتشار الثقافة، بل ومدى عمقها في عصر من العصور. ينظر «المخطوط العربي» لعبد الستار الحلوجي ص: 173، و «عناية المحدثين بتوثيق المرويات» .. ص: 17 - 18.

ثانيًا: تشكيل حلقات مترابطة من الرُّواة الذين عن طريقهم نقلت آلاف المخطوطات، فكل سماع أو قراءة يحتوى على أسماء الأشخاص الذين تلقوا هذا الأصل عن سابقتهم، حتى ينتهي ذلك إلى مصنف الكتاب، فهي بمثابة شهادات على شهادات بنقل هذه المادة مصونة مضمونة محررة مضبوطة كما وضعها مؤلفها.
«عناية المحدثين بتوثيق المرويات» .. ص: 16.
هذا بالإضافة إلى فوائد ثقافية كثيرة منها:
1 - دراسة تاريخ التدريس في الإسلام والتأريخ لظاهرة علمية.
2 - معرفة أسماء كثير من الرجال والشيوخ وبعض المعلومات عنهم.
3 - تحديد مدارس العلم وأماكنه في العصور الأولى.
4 - معرفة بعض جوانب الحياة الاجتماعية الإسلامية.
ينظر في أهمية السماعات والقراءات بحث: «إجازات السماع في المخطوطات القديمة»، لصلاح الدين المنجد، وهو بحث منشور في مجلة معهد المخطوطات العربية، الجزء الثاني، المجلد الأول سنة 1950 م من ص: 232 - 252
وللسماع عناصر كثيرة ومنها: ما اشتمل عليه السماع الذي حضره ابن الصلاح، والذي سيأتي ذكره فيما بعد.
وهذه العناصر على سبيل الاختصار هي:
1 - اسم المُسمعُ: ويراد به الشيخ إذا كان راويًا للنسخة، أو المؤلف إذا كان يقرأ من نسخته.
2 - أسماء السامعين: وتسرد فردًا فردًا مع ذكر أسماء آبائهم وذكر ما يميزهم.
3 - القدر المسموع من الكتاب: وكانت أمانة العلم تدفعهم إلى النص على ما سمعه من الحاضرين، فقد يتأخر أحدهم عن السماع فيقولون: سمعه مع فوت .. إلى غير ذلك.
4 - اسم القارئ على الشيخ: والمراد بالقارئ من يتولى قراءة الكتاب، ويختار القارئ عادة الشيخ، ويراعي أن يكون ممن عرف بإتقانه وحسن قراءته، وقد يكون من أقران الشيخ، أو من تلاميذه المبرزين، وقد يشترك في القراءة أكثر من شخص.
5 - كاتب السماع: وهو الذي يتولى تدوين وقائع السماع، وقد يكون هو الشيخ المسموع عليه، وقد يكون هو القارئ على الشيخ أو غيره.
وكان يشترط في كاتب السماع الأمور الآتية:
- الأهلية: بأن يكون موثوقًا به غير مجهول الخط.
- التحري والدقة ببيان السامع والمسموع منه بلفظ غير محتمل ..
- الأمانة: وذلك بأن يكون أمينًا فيما يثبته: وتلك الشروط ذكرها ابن الصلاح، وهي تؤكد على أهمية أثر كاتب السماع في توثيق المخطوط.
6 - ذكر عبارة: (صح وثبت) أو ما يماثلها، مما يدل على تأكد كاتب السماع من أسماء السامعين.
7 - مكان السماع: وقد يذكر اسم البلد أو المدينة أو المدرسة أو المسجد أو المنزل الذي تم فيه السماع.
8 - تاريخ السماع ومدته: ويحدد فيه التاريخ، وقد يذكر باليوم والشهر والسنة.
وقد يذكر مدة السماع: هل هو في مجلس واحد، أو أكثر؟ إلى غير ذلك.
9 - وصف النسخة التي قرئت وسمعها الحاضرون وقيمتها إذا كان المُسمع أحد الرُّواة لا المؤلف نفسه.
وهكذا ضرب المحدثون أروع الأمثلة من خلال هذا المنهج التوثيقي المنقطع النظير، فهذا الميدان قد تفرد به المحدثون، ولذا كان من أعظم الأسباب لصيانة المرويات، وخاصة بعد عصر التدوين، وأصبح الاعتماد فيه على المرويات والكتب المصنفة.
وهناك ألوان أخرى من أنماط التوثيق التي تميز بها المحدثون أذكرها باختصار، لما لها من أثر في توثيق المرويات ولعدم اهتمام كثير من العلماء بالإشارة إليها: وهما القراءة والمطالعة:
أولًا القراءة: وهي عبارة عن قيام واحد أو أكثر من الطلبة بقراءة كتاب يختاره الشيخ ويقوم الشيخ بالتعليق على المسموع من حين لآخر، أو توضيح لغريب، أو لفظة شاذة، والقراءة تدل بذاتها على قراءة الكتاب على عالم متخصص في الفن الذي ألفت فيه النسخة المقروءة.
وبين السماع والقراءة عموم وخصوص كما يقول الأصوليون؛ فسماع الكتاب على الشيخ يقتضي قارئًا وسامعًا أو أكثر.
وقراءة الكتاب على الشيخ إذا جاءت بعبارة المتكلم الواحد مثل: قرأت هذا الكتاب على فلان. لا تقتضي وجود سامع أو سامعين غير المؤلف.
ومجلس السماع يعد سماعًا وقراءة، إذا كان أحد يقرأ على الشيخ وكان آخرون يستمعون، ويعد مجلس سماع وإملاء إذا كان الشيخ يملي وآخرون يقيدون ما يمليه؛ فإنه بالنسبة للسامعين يسمى سماعًا، وبالنسبة للقارئ أو القراء يسمى قراءة وعرضًا.
وقد يطلق على القراءة العرض أو المقابلة.
وكان من نتائج القراءة على الشيخ ظهور الشروح والمختصرات والحواشي التي أصبح لها أهمية كبيرة في مختلف العلوم.
أما المطالعة ويطلق عليها أيضًا النظر، فتعني أن يطالع عالم أو قارئ أو شيخ في الكتاب بقصد الاستفادة منه أو المذاكرة فيه.
وعادة ما تبدأ عبارات المطالعة بقولهم: طالعه العبد .. ، أو طالع فيه فلان .. ، أو نظر فيه فلان بن فلان، وقد تذكر معلومات أكثر مثل اسم المطالع كاملًا والجزء أو الكتاب الذي تمت مطالعته وتاريخ المطالعة ومكانها وغير ذلك.
وهناك أنماط أخرى ساعدت في توثيق المرويات عند المحدثين وهي:
الإجازات التي تكتب آخر المرويات أو أولها.
ومنها أيضًا التمليكات التي تكتب على المخطوطات.
ولولا الإطالة لتناول البحث التفصيل في ذلك.

الصفحة 111