أما الشريعة الربانية فتمتد من الدنيا إلى الآخرة، وتجمع بين الجزاء الدنيوي والأخروي.
وبالجملة فهذه الشريعة ربانية في غايتها، إلهية في مقصدها؛ إذ غايتها من الإلزام والالتزام: التعبد لله وطلب رضاه، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 5].
وهي ربانية في أصولها واستمدادها ومنهجها وطريقتها.
المطلب الثاني: الثبات والديمومة مع المرونة:
ثبات الشريعة مستمد من كونها حقًّا لا يتغير، وصدقًا لا يتبدل، وختامًا لشرائع الله تعالى فلا تنسخ، قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام: 115]، فلا معقب لحكمه في الدنيا ولا في الآخرة (¬1)، فالعصمة ثابتة لها في حفظها وفي بيانها، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، وقال تعالى: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 42].
ومنعُ القرآن من الخلل والفساد، وحفظه وإتقانه، كل ذلك من معاني الإحكام الواردة في قوله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 1]، "وهو كله من جملة الحفظ، والحفظ دائم إلى أن تقوم الساعة، فهذه الجملة تدلك على حفظ الشريعة وعصمتها عن التغيير والتبديل" (¬2).
وإذا كان التكليف إلى يوم القيامة فإنه لا يتحقق إلا بثباتها ودوامها وسلامتها من التغيير والتبديل، قال الغزالي -رحمه الله- (¬3): "السلف من الأئمة مجمعون على دوام
¬__________
(¬1) تفسير القرآن العظيم، لأبي الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير، تحقيق: سامي بن محمد السلامة، دار طيبة، الرياض، ط 2، 1420 هـ - 1999 م، (3/ 322).
(¬2) الموافقات، للشاطبي، (2/ 58).
(¬3) أبو حامد، محمد بن محمد الغزالي، الملقب بحجة الإسلام، ولد سنة 450 هـ، تلقى العلم على إمام الحرمين الجويني وغيره، له تصانيف كثيرة، منها: إحياء علوم الدين، والمستصفى في الأصول، توفي سنة 505 هـ. سير أعلام النبلاء، للذهبي، (19/ 322)، طبقات الشافعية الكبرى، لابن السبكي، (6/ 191).