كتاب من حديث النفس

ويستنفد قواه. إني أتمنى أن أعيش شهراً لنفسي كما يعيش الناس، وأين مني ما أتمناه؟ إن الناس إذا سمعوا خبراً أو قرؤوا قصة فكروا في ذلك لأنفسهم، وأنا إن سمعت أو قرأت فكرت كيف أبني على ذلك مقالة أو أصوغ منه قصة، وإن رأى الناس مشهداً من مشاهد الطبيعة أو فِلماً من أفلام السينما استمتعوا به لأنفسهم، وإن رأيته أنا فكرت كيف أصفه لأمتع به القراء والمستمعين، وإن فرحوا أو حزنوا كان فرحهم أو حزنهم لهم، وفرحي أنا أو حزني للناس، أعمل من أجل ذلك عمل المجانين.
أقف في الطريق لأدوّن فكرة طرأت عليّ تصلح لحديث أو مقال، وأكتب في زحمة الترام أن ذكّرني الترام بشيء يصلح لحديث أو مقال، وإلى جنب سريري الورق والقلم مربوط بالمصباح، فكلما خطرت لي فكرة أضأت المصباح وكتبت. ويقول مدرّسو الأدب إن الأفكار تجيء في المناظر الجميلة، في الرياض حيث تزقزق العصافير وتهدر السواقي والمرء مستريح نشيط، أما أنا فلا تجيئني الأفكار إلاّ في الفراش وأنا محطم من النعاس، فأنا أشعل النور كل ليلة وأطفئه عشرين مرة، لذلك يهرب مني الأهل فلا يستطيع أن ينام أحد في الغرفة التي أنام فيها.
أما الناس فقد هربت منهم أو هربوا مني، فأنا من سنين منفرد معتزل لا أكاد أزور أحداً ولا يزورني الناس إلا قليلاً. وإن زارني صديق على شدة الشوق إليه والرغبة فيه لم أستطع أن أستقبله، وهل يستقبل الطالب أحداً ليلة الامتحان؟ إن عليّ في كل ليلة إعداد مقالة يمتحن بها القراء أو السامعون أدبي، ليروا هل أنا حيث كنت أم قد أدركني الونى والكلال فسقطت في المعركة.

الصفحة 295