كتاب من حديث النفس

هل تعرفون السراب؟ إن الذي يسلك الصحراء يراه من بعيد كأنه عينٌ من الماء الزلال تحدق صافية في عين الشمس، فإذا كد الركابَ وحثّ الصحابَ ليبلغه لم يلقَ إلاّ التراب.
هذه هي ملذات الحياة؛ إنها لا تلذ إلاّ من بعيد.
يتمنى الفقير المال، يحسب أنه إذا أعطي عشرة آلاف ليرة فقد حيزت له الدنيا، فإذا أعطيها فصارت في يده لم يجد لها تلك اللذة التي كان يتصورها وطمع في مئة الألف ... إنه يحسّ الفقر بها وهي في يده كما يحسّ الفقر إليها يوم كانت يده خلاء منها، ولو نال مئة الألف لطلب المليون، ولو كان لابن آدم واد من ذهب لابتغى له ثانياً، ولا يملأ عينَ ابن آدم إلاّ التراب (¬1).
والشاعر العاشق يملأ الدنيا قصائد تسيل من الرقة وتفيض بالشعور، يعلن أنه لا يريد من الحبيبة إلاّ لذّة النظر ومتعة الحديث، فإذا بلغها لم يجدهما شيئاً وطلب ما وراءهما، ثم أراد الزواج فإذا تمّ له لم يجد فيه ما كان يتخيل من النعيم، ولذابت صور الخيال تحت شمس الواقع كما يذوب ثلج الشتاء تحت همس الربيع، ولرأى المجنون في ليلى امرأة كالنساء ما خلق الله النساء من الطين وخلقها (كما كان يُخيَّل إليه) من القشطة، ثم لَمَلّها وزهد فيها وذهب يجنُّ بغيرها!
¬__________
(¬1) حديث آخره: «ويتوب الله على من تاب».
قلت: وهو حديث مشهور رواه الشيخان والترمذي وابن ماجه وأحمد من طرق كثيرة بألفاظ متقاربة (مجاهد).

الصفحة 306