كتاب دفع دعوى المعارض العقلي عن الأحاديث المتعلقة بمسائل الاعتقاد

الاعتبارات المُسّتمدَّة مِن السُّلطة المُعيَّنة) (¬١)
ثم يُبيِّن أنَّه لا وجودَ للتعارض الحقيقي بين النَّقل والعقل، وإنّما التعارض بينهما تعارض ظاهري، وانتفاء وجود التعارض حقيقة -لديه- ليس على أَساس استحالة التعارض بينهما؛ لكون الدَّلائل العقلية موافقة للدلائل النقليَّة وتَضمُّن الأخيرة للأولى =وإنّما على أساس امتناع وجود معرفةٍ يُوثقُ بها تكون في رُتبة المعرفة العقليَّة لِيقع التعارض (¬٢)!!
وفي ذلك يقول: (الموقفُ من أيِّ تعارضٍ بين النَّقلِ والعقلِ، مِن قِبَلِ الَّذين يعتبرون النَّقلَ مَصْدَرًا من مصادر المعرفةِ= هو أنَّهم لن يتخلَّوا عمَّا وَصَلَهم عن طَريقِ النَّقلِ، حتَّى ولو تبيَّن على نحو قاطعٍ أَنَّ تعارضَه مع العقل هو تعارضٌ حقيقيٌ، وليس مُجرَّد تعارضٍ ظاهري، حتَّى موقف كهذا لا يفلت من المعايير العقليَّة. فإذا اختار واحدُنا التَّمسكَ، مثلًا، بالفهم الحَرْفي لِقِصَّة الخلق في وجه كُلِّ الأَدلَّةِ التي نَجِدُها في نَظَريَّة التطوّر، وعِلم الإحاثةِ، وعلم الفَلَك (¬٣)،
حتَّى في حال اعترافهِ بعدَم إمكان التوفيق بين هذا الفهم والأدلَّة الأخيرة =فإنَّه مُطالبٌ بأنْ يُبيِّنَ لماذا يَثِقُ بالنَّقلِ أكثر من ثِقَتِه بالعقلِ، بمعنى آخر =إنَّ عليه أن يُعطي أَسْبابًا لترجيح أحكام النَّقلِ على أحكام العقل، وإلَاّ يكونُ موقِفُهُ تحكُّميًّا، من الواضحِ إذنْ؛ أنَّ العقلَ يبقى مَرجِعنا الأخير بِخصوصِ قَبولِ، أو رفض موقف كهذا (¬٤)، فالعقلُ هو سَبيلُنا الوحيد لتقويمِ أَيّ
---------------
(¬١) "أوليّة العقل"عادل ضاهر (١٥٦) .
(¬٢) انظر: "الأسس الفلسفيَّة للعلمانيّة"لعادل ضاهر (٣٦٢) .
(¬٣) نظريَّة التطور التي قال بها دارون لم تَرقَ إلى درجة الحقيقة العلميَّة المقطوع بها بشهادة علماء الغرب أَنفسهم الذين فوَّقوا سهام النّقد والتمحيص إليها، ناهيك عن مناقضتها للدَّلائل الشَّرعيَّة=انظر: "مصرع الدَّارونيَّة"لمحمد علي يوسُف (٣٥) ..
(¬٤) هذه مغلطةٌ؛ ويمكن قلب الدعوى عليه بأن يُقال: إنَّ صِحَّة النَّقل ثُبوتًا ودلالةً يقضي= =بِقبولِ حُكْمِهِ لمن كان مؤمنًا، لقيام البرهان العقلي لديه على صدقِ كل ما يجيءُ به الشَّرعُ لكونه من عند الله، وثبوت ذلك لديه =سبب موجب للإيمان إيجابًا حتمًا كُليًّا، وعندئذٍ يكون قيامُ البرهانِ العقلي على صِّحّةِ النَّقل من حيث الأَصل =لايكونُ حُكْمًا بأوليَّته من حيث التقديم لحكمه ابتداءً وانتهاءً، وإنّما هو اعتضاد به ابتداء لكونِ الخطاب موجَّهاً إليه ليقوم بأمانة التكليف، ثُمَّ تكون السُّلطة للنَّقلِ؛ لأنَّ العِبرةَ بمن تنفذُ أحكامه في آخر الأمر. وأَمَّا البرهنةُ على خُصوصِ قَضيَّة شرعيَّة ما مما يقع للعقل إدراكها =لا يعني أَيضاً أنَّ ذلك حُكماً بأوليَّته-أعني العقلَ- على النَّقلِ؛ لأنَّ الهيمنةَ في جليّة الأمر لسُلْطان النَّقلِ =فالبرهنةُ العقلية بمثابة طليعة الجيشِ المُمهِد لقيام دولةِ النَّقلِ ونفوذ أحكامهِ.

الصفحة 35