كتاب طرق الكشف عن مقاصد الشارع

الحالات التي يلزم فيها معرفة أسباب النزول لفهم المقصود من الخطاب:
يرى الإمام شاه ولي الله الدهلوي أن كثيرًا مما يروى من أسباب النزول لا تدعو الحاجة إليه في تفسير القرآن الكريم، وأن اعتبار الإحاطة به شرطًا من شروط التفسير فيه تفويت لحظ النَّفس من كتاب الله تعالى، وحرمان من إدراك روحه وجوهره، وأن ما فعله البعض من محاولة تقصي سبب نزول لأكثر آيات القرآن الكريم يُعدّ من باب الإفراط. (¬1)
وإذا أخذنا أسباب النزول بمفهومها العام عند الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم - الذي سبق ذكره - فإن النصوص القرآنية التي يتعذّر فهمها بغير الإطلاع على أسباب النزول تنحصر في حالين:
1 - "معرفة القصص التي تتضمن الآيات القرآنية التعريض بها؛ فإن فهم إيماء هذه الآيات وإشارتها لا يتيسر إلَّا بمعرفة تلك القصص"، (¬2) فالآية في مثل هذه الحالة تكون مبهمةً يتوقَّف فهم المراد منها على العلم بسبب النزول، ومثال ذلك قوله الله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)} [المجادلة: 1]، وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)} [البقرة: 104].
3 - سبب النزول الذي يفيد تخصيصاً لعام، أو تقييدًا أطلق، أو بياناً لمجمل، أو يدفع تشابهاً، وأمثال ذلك مما يُصْرَفُ فيه الكلام عن ظاهره المتبادر منه، إذْ إنّ فهم مقاصد الآيات ومراميها لا يتأتى بدون ذلك. (¬3)
والخلاصة أن ما كان من الآيات تَامّ المعنى بعموم صيغته مستقلاًّ فَهْمُهُ عَمّا يُورَدُ بشأنها من أسباب النزول، وعن الحادث الذي كان سببًا للنزول فإنه لا يُحتَاج في التعرف على مقصوده إلى استحضار أسباب النزول، وإنما يفتقر إلى استحضار ذلك ما
¬__________
(¬1) انظر المصدر السابق، ص 66 - 67.
(¬2) المصدر السابق، ص 62.
(¬3) انظر المصدر السابق، ص 62، ومحمد الطاهر بن عاشور: التحرير والتنوير، ج 1، ص 49 - 50.

الصفحة 103