كتاب طرق الكشف عن مقاصد الشارع

الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18)} [الليل: 17 - 18] فقد قيل إنَّها خاصة في أبي بكر الصِّديق على اعتبار"ال" في "الأتقى" للعهد، والمعهود هو الصِّديق - رضي الله عنه -. (¬1)
القسم الثاني: أن يكون السبب خاصًّا واللفظ عامًّا، وهذا الذي اختلف فيه العلماء: هل العبرة بخصوص السبب أم بعموم اللفظ؟
نُسِبَ إلى أبي الحسن الأشعري والمزني وأبي ثور والشافعي وبعض أصحابه القول بأن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ، (¬2) أي أن الآيات التي نزلت في أسباب خاصة تثبت أحكامها لمن نزلت فيهم حصرًا ولا تعمّ غيرهم. ولكن لمَّا كان هؤلاء يقرُّون بعموم الشريعة لكلّ النّاس، وحاجة الناس إلى نصوص تحكم تصرفاتهم، فقد قالوا إن ثبوت الأحكام التي نزلت بها تلك الآيات لما يشبه الحالات التي نزلت فيها إنما يكون بدليل آخر وهو إما القياس بشروطه، بأن يقاس بقية الناس على سبب النزول، أو قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - "حكمي على الواحد حكمي على الجماعة". (¬3) وقد استدل هذا الفريق بأدلة لا داعي لإيرادها في هذا المقام، ومن أراد تفصليها فلينظرها في مواطنها. (¬4)
أما جمهور العلماء فقد ذهبوا إلى أنه مادام اللفظ عامّاً فإن الحكم يتناول كلّ أفراد اللفظ، سواء منها أفراد سبب النزول، وغيرها مما يمكن أن ينطبق عليه. (¬5)
¬__________
(¬1) انظر السيوطي: الإتقان في علوم القرآن، ج 1، ص 88.
(¬2) انظر الزَّركشي: البحر المحيط، ج 3، ص 40.
(¬3) كثيراً ما يورد الأصوليون هذا الدليل وينسبونه للرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولكنه لم يصح وروده حديثاً؛ فقد قال عنه السخاوي: "ليس له أصل". انظر السخاوي، محمد بن عبد الرحمن: المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة، تحقيق عبد الله محمد الصِّديق، وعبد الوهاب عبد اللطيف، (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1399 هـ / 1979 م)، ص 192. وقد ورد في السُّنّة ما يفيد معناه، ففي سنن الترمذي عن أميمة بنت رُقيقة قالت: "بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نسوة، فقال لنا في ما استطعتن وأطقتن، قلت الله ورسوله أرحم بنا منّا بأنفسنا. فقلت يا رسول الله بايعنا، قال سفيان: تعني صافحنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما قولي لمائة امرأة كقولي لإمرأة واحدة". سنن الترمذي، كتاب السير، باب (36)، ج 3، ص 77.
(¬4) انظر الغزالي: المستصفى، ج 2،ص 36 - 38؛ والزرقاني: مناهل العرفان، ج 1، 125 - 126، 130 - 134؛ والرازي: المحصول، ج 3، ص 124 - 126.
(¬5) انظر الغزالي: المستصفى، ج 2، ص 36؛ والجويني: البرهان، ج 1، ص 254 - 255.

الصفحة 105