كتاب طرق الكشف عن مقاصد الشارع

نماذج تطبيقية
من أمثلة النصوص التي تحتاج إلى معرفة أسباب النزول لإدراك المقصود منها ما يأتي:
1 - فهم النصوص التي وردت في التدرج في التّشريع، مثل الآيات الواردة في تحريم الخمر والربا. إذ الناظر فيها من غير معرفة بأسباب نزولها يجد فيها شيئاً من التضارب؛ فمنها ما ينص على الحرمة قطعاً، ومنها ما يقتصر على مجرد التنفير مما يفهم منه مجرد الكراهة. وإدراك أسباب النزول يبين كيفية ترتيبها، وأن الحكم هو ما ورد في آخرها نزولاً، وإنما وقع فيها ما وقع تيسيراً على النّاس في التدرج بهم للتخلص من أَسْرِ تلك المحرمات التي تجذّرت فيهم ويصعب التخلي عنها دفعة واحدة.
2 - قال الله تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)} [الأنعام: 145]. فعبارة "لا أجد ... إلَّا" تفيد الحصر، أي حصر المحرمات فيما ذكر، ولكن الناظر في النصوص الشرعيّة الأخرى يرى أن هذه المحرمات تمثل جزءًا فقط من المطعومات المحرمة. ومما يدل دلالة قاطعة على أن الحصر في هذه الآيات غير مقصود ثبوت حرمة الخمر قطعًا بالقرآن والسنة، وهي غير مذكورة في هذه المحصورات.
وقد اختلف أهل العلم من زمن الصحابة - رضوان الله عليهم - في هذه الآيات: هل يُؤخذ بما يفيده ظاهرها من حصر المحرمات في هذه الأربعة، ومن ثَمَّ عدم الأخذ بما ورد في السنة من تحريم كلّ ذي ناب من السباع، والحُمُر الأهلية وغيرها، أم لا يؤخذ به؟ وإذا أُخِذ بما ورد في السنة من محرمات هل يكون ذلك ناسخاً للآيات باعتباره زيادة فيها مخالفة لما ورد في الآية من حصر أم لا؟ فمنهم من اعتبر الحصر في الآية حقيقياً فلم يقل بحرمة غيرما ورد فيها مما جاء تحريمه في السنة، ومنهم من أخذ بما ورد في السنة وذهب إلى أن الزيادة عليها لا تُعدُّ فسخاً لها، وفي ذلك نقاش طويل لا حاجة لعرضه هنا. (¬1) ويرى ابن عاشور أن الحصر هنا حقيقي، ولكنه بحسب
¬__________
(¬1) انظر في تفصيل هذا مثلاً: القرطبي؛ الجامع لأحكام القرآن، ج 7، ص 115 - 124؛ الشنقيطي، محمد الأمين: أضواء الآن في إيضاح القرآن بالقرآن، (القاهرة: مكتبة ابن تيمية، 1413 هـ/ 1992 م)، ج 2، ص 220 - 247.

الصفحة 107