كتاب طرق الكشف عن مقاصد الشارع

ما كان محرماً يوم نزول هذه الآية، فهي مكيّة، ولم يحرم بمكة غيرها من الحيوان. (¬1)
ويبدو أن أفضل توجيه للآية هو ما نقله السبكي (¬2) عن الشافعي أنه قال ما معناه: "إنّ الكفار لمَّا حرَّموا ما أحلَّ الله، وأحلُّوا ما حرَّم الله، وكانوا على المضادَّة والمحادّة جاءت الآية مناقضة لغرضهم. فكأنه قال: لا حلال إلَّا ما حرمتموه، ولا حرام إلَّا ما أحللتموه. نازلاً منزلة من يقول لك: لا تأكل اليوم حلاوة، فتقول: لا آكل اليوم إلَّا حلاوة، والغرض المضادة لا النفي والإثبات على الحقيقة. فكأنه تعالى قال: "لا حرام إلَّا ما أحللتموه من الميتة، والدم، ولحم الخنزيز وما أُهِلَّ لغير الله به" ولم يقصد حِلَّ ما وراءه، إذ القصد إثبات التحريم، لا إثبات الحِلّ". (¬3)
فمع هذا التوجيه لا تكون هناك حاجة إلى القول بالنسخ، ولا إلى الخوض في الزيادة على النص هل هي فسخ أم لا؟ وغير ذلك مما ثار من نقاش حول كيفية التوفيق بين الحصر الوارد في الآية والسنة الواردة بتحريم أشياء زائدة على ذلك.
وفي ذلك قال إمام الحرمين: " ... ولولا سبق الشافعي إلى ذلك لما كُنَّا نستجيز مخالفة مالك في مصيره إلى حصر المحرمات فيما ذكر الله تعالى في هذه الآيات". (¬4)
¬__________
(¬1) انظر محمد الطاهر بن عاشور: التحرير والتنوير، ج 8، ص 138 - 140.
(¬2) هو عبد الوهاب بن علي بن عد الكافي السبكي، تاج الدين، قاضي القضاة في الشام. ولد عام 727 هـ وتوفي بالطاعون عام 771 هـ انظر الزركلي: الأعلام، ج 4، ص 335.
(¬3) نقلاً عن الزرقاني: مناهل العرفان في علوم القرآن، ج 1، ص 112. وقد نقل الجويني في البرهان كلاماً قريباً من هذا. انظر البرهان، ج 1، ص 253 - 254. ولم يجد الباحث نص هذا الكلام عند الشافعي في كتابيه: الأم، والرسالة، وما وجده هو قوله: "وسمعت بعض أهل العلم يقولون في قول الله -عَزَّ وَجَلَّ-: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145]، الآية: يعني مما كنتم تأكلون". الشافعي، محمد بن إدريس: الأم، خرج أحاديثه وعلق عليه محمود مطرجي، (بيروت: دار الكتب العلمية، ط 1، 1413 هـ / 1993 م)، ح 2، ص 389.
وأورد في موضع آخر أنه قيل إنَّها نزلت فيما حرمه المشركون على أنفسهم من مطعومات كالبحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام، وغيرها، كأنه يقول لهم لا أجد فيما أوحي إلى محرماً من بهيمة الأنعام - مما أحللتم وحرمتم بزعمكم- إلَّا هذه، أمَّا ما عداها مما أحللتم من حرام أو حرمتم من حلال فهو محض افتراء على الله تعالى. انظر الشافعي: الأم، ج 2، ص 383 - 384.
(¬4) الجويني: البرهان، ج 1، ص 254.

الصفحة 108