كتاب طرق الكشف عن مقاصد الشارع

بهما. فلما ظهر الإِسلام وكسر الأصنام، تحرّج المسلمون أن يطوفوا بينهما لذلك، فترلت الآية تخبرهم بأن السعي بينهما من شعائر الإِسلام ولا يخرجه عن ذلك كونه جزءًا من شعائر الحج في الجاهلية، ومن ثَمَّ فإنّ الإتيان به ليس فيه أي جناح. (¬1)
4 - قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)} [النساء: 3].
فظاهر الآية لا يفهم منه معنى للربط بين الشرط والجزاء، فكيف يكون خوف عدم الإقساط في اليتامى دافعاً إلى نكاح ما طاب من النساء مثنى وثلاث ورباع؟ ولكن معرفة سبب النزول يبيِّن هذه العلاقة، ويزيل هذا الغموض. فقد روى البخاري عن عائشة - رضي الله عنها -: "أنّ رجلاً كانت له يتيمة فنكحها وكان لها عذق (¬2) وكان يمسكها عليه ولم يكن لها من نفسه شيء فنزلت فيه {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} أحسبه قال: كانت شريكته في ذلك العذق وفي ماله".
وعن عروة بن الزبير -أيضاً- أنه سأل عائشة - رضي الله عنها - عن قول الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} فقالت: "يا ابْنَ أخْتِي هَذِه اليتِيمَةُ تَكونُ في حِجْر وَلِيِّهَا تشْرَكُه في مَاِلهِ، ويُعْجِبُه مَالُهَا وجَمَالُهَا فَيُرِيدُ وَلِيُّهَا أَنْ يَتَزوَّجَها بِغَيْر أَنْ يُقْسِطَ في صَدَاقِهَا فَيُعْطيهَا مِثْل مَا يُعْطِيهَا غَيْرُه، فَنُهُوا عَنْ أَنْ يَنْكِحُوهُنّ إلَّا أنْ يُقْسِطُوا لَهُنّ ويَبْلُغُوا لَهُنّ أَعَلى سُنَّتهِنّ في الصّدَاقِ، فَأُمِرُوا أَنْ يَنْكِحُوا مَا طَابَ لَهُمْ مِنْ النِّسَاءِ سِوَاهُنّ. قَالَ عُروة: قَالَت عَائِشَة: وإن النّاسَ اسْتَفْتَوا رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بَعْدَ هَذِه الآيةِ فَأنْزَل الله: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} [النساء: 127]. قالت عائشة: وقَوْل الله تعالى في آيةٍ أُخْرى {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [النساء: 127] رَغْبَةَ أَحَدِكم عَنْ يَتِيمَتِه حِينَ تَكونُ قَلِيلَة المَالِ والجَمَالِ، قَالَت: فَنُهُوا أَنْ يَنْكِحُوا عَمَّنْ رَغِبُوا فِي مَالِه وجَمَالِه فِي يَتَامىَ النِّسَاءِ إلّا بِالقِسْطِ مِنْ أَجْلِ رَغْبَتِهم عَنْهُنّ إذَا كانَّ قَلِيلات المالِ والجَمَالِ" (¬3).
¬__________
(¬1) الزرقاني: مناهل العرفان، ج 1، ص 110 - 111.
(¬2) العذق (بفتح العين) النخلة، وبالكسر العرجون بما فيه من الشماريخ. انظر ابن منظور: لسان العرب، ج 10، ص 238 - 239.
(¬3) صحيح البخاري، كتاب التفسير، تفسير سورة النساء، باب (1)، مج 3، ج 5، ص 212، الحديث (4574).

الصفحة 110