كتاب طرق الكشف عن مقاصد الشارع

"لَا تَسُبُّوا الدّهْزَ فَإِنّ الله هُوَ الدَّهْرُ". (¬1)
فذهب البعض -بناءً على ظاهر الحديث- إلى القول بأن "الدهر" اسم من أسماء الله تعالى، ولكن الإطلاع على سبب ورود الحديث ينفي ذلك. روى مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قَالَ الله عَزّ وَجَلّ يُؤْذِينِي ابنُ آدمَ. يَقُولُ: يا خَيْبَة الدَّهْرِ, فَلَا يَقُولَنّ أَحَدُكم يا خَيْبَةَ الدَّهْرِ فَإِنّي أَنَا الدَّهْرُ أُقَلِّبُ ليلَهُ ونَهَارَهُ، فَإَذَا شِئْتُ قَبَضْتُهُمَا". (¬2) وفي بيان ذلك يقول الإمام الشافعي: "إنما تأويله- والله أعلم- أن العرب كان من شأنها أن تذمّ الدهر وتسبّه عند المصائب انتي تنزل بهم: من موت، أو هدم، أو تلف مال، أو غير ذلك، وتسبّ الليل والنهار -وهما الجديدان والفَتَيَان- ويقولون: أصابتهم قوارع الدهز وأبادهم الدهز وأقى عليهم، فيجعلون الليل والنهار اللذين يفعلان ذلك؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَا تَسبُّوا الدَّهْرَ" على أنه الذي يفعل بكم هذه الأشياء، فإنكم إذا سببتم فاعل هذه الأشياء فإنَّما تسبون الله -عَزَّ وَجَلَّ-، فإن الله تعالى فاعل هذه الأشياء". (¬3)
ومن ذلك الأحاديث التي وردت في بيان أفضل الأعمال وأحبها إلى الله تعالى، فقد سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - في مناسبات مختلفة عن أفضل العمل، وأحبه إلى الله تعالى، فكان جوابه مختلفاً، فمرة ذكر أن أفضل الأعمال هو الإيمان بالله تعالى وبرسوله - صلى الله عليه وسلم -، ومرة جعله الصلاة لوقتها، ومرة الصوم، ومرة أدوم الأعمال، ومرة المداومة على تلاوة القرآن الكريم، ومرة الحب في الله والبغض في الله، ومرة التلبية والنحر في الحج، ولا يمكن تفسير ذلك إلّا بأن هذه الأفضلية ليست على إطلاقها؛ إذْ الأفضل على الإطلاق لا يمكن أن يتعدد، وإنما أفضلية بالنسبة إلى السائل أو إلى الحال التي يخصها السؤال، فيتحصل أن سبب الإختلاف. في تحديد أفضل الأعمال وأحبها إلى الله تعالى هو اختلاف المقام الذي صدرت فيه، فكان الجواب بحسب حال السائل،
¬__________
(¬1) صحيح مسلم، كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها، باب (1)، ج 4، ص 1763.
(¬2) المصدر السابق، كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها، باب (1)، ج 4، ص 1762.
(¬3) البيهقي: مناقب الشافعي، ج 1، ص 336 - 337؛ وانظر ابن عاشور، محمد الطاهر: أصول النظام الإجتماعي في الإِسلام، (تونس: الشركة التونسية، 1979 م)، ص 38.

الصفحة 116