كتاب طرق الكشف عن مقاصد الشارع

أنه تصرف بالقضاء فلا يجوز لأحد أن يأخذ حقه أو جنسه إذا ظفر به عند غريمه إلَّا بحكم من القاضي؟ (¬1)
ومن قرائن كون تصرَّف النبي - صلى الله عليه وسلم - قصد به التشريع: الإهتمام بإبلاغه إلى العامة، والحرص على العمل به، وإيراد الحكم في صورة قضية كليّة. (¬2)
2 - مقام الإمامة: وهو تصرَّف الرسول - صلى الله عليه وسلم - بوصفه إمامًا وقائداً بما يقتضيه صلاح الدولة من تنظيم وتدبير، سواء في وقت السِّلم أو الحرب، وهو الذي يدخل ضمن مجال السياسة الشرعيّة. ومثال ذلك تصرَّف النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعث الجيوش، وصرف أموال بيت المال في جهاتها، وتولية الولاة، وغيرها. (¬3) ولم يُعدّ هذا من باب التشريع -بمعناه الخاص- لأنه لا يلزم الحاكم الأخذ به، وإنما يتخير منه ما يكون مناسباً لظروف الدولة، وله أن يعدل عنه إلى غيره إذا كان أكثر تحقيقاً لمصلحة الإِسلام والمسلمين. هذا بالنسبة للإِمام، أما بالنسبة للرعية فإن الفرق بينه وبين التشريع أنه لا يصح لأحد أن يُقْدم على ما قضى به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوصفه إمامًا إلّا بإذن إمام الزمان. (¬4)
وتتضح لنا أهمية التفريق بين مقامي التصرف بالتشريع والتصرف بالإمامة من خلال حادثة الحباب بن المنذر - رضي الله عنه - مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة بدر الكبرى حين اختار - صلى الله عليه وسلم - موقعاً للمسلمين لخوض المعركة، ورأى الحباب أن ذلك الموقع غير مناسب فسأل الرسول - صلى الله عليه وسلم -: هل هذا الفعل من باب التشريع؟ فلا يسع معه إلَّا الإمتثال، أم أنه من باب التصرف بالإمامة؟ فيمكن العدول عنه إلى ما هو أنسب. أخرج الحاكم في المستدرك عن الحباب بن المنذر الأنصاري قال: "أشرت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر بخصلتين فقبلهما مني؛ خرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزاة بدر فعسكر خلف الماء فقلت: يا رسول الله أَبِوَحْيٍ فعلتَ، أو بِرَأْيٍ؟ قال: بِرَأْيٍ يا حُبَابُ. قلت: فَإنّ الرَّأْيَ
¬__________
(¬1) انظر القرافي: الفروق، ج 1، ص 359 - 360.
(¬2) انظر محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 154.
(¬3) انظر القرافي: الفروق، ج 1، ص 358.
(¬4) انظر القرافي: الفروق، ج 1، ص 358.

الصفحة 120