كتاب طرق الكشف عن مقاصد الشارع

حتى علت أصواتهما في المسجد وسمعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حجرته، فأشار على كعب ابن مالك أن يضع نصف الدين، وكان في ذلك شافعاً لعبد الله بن أَبِي حدرد، ولم بين أمره لكعب بوضِع الشطر من باب التشريع الملزم. أخرج البخاري عن عَبْد الله بْن كَعْبِ بْنِ مَالِكٌ أنَّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٌ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِي حَدْوَد دَيْنًا لَهُ عَلَيْهِ فِي عَهْدِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فِي الْمَسْجِدِ فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ فِي بَيْتِهِ فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ وَنَادَى كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: "يا
كَعْبُ". قَالَ: لَبَّيْكَ يا رسُولَ الله، فَأَشَارَ بِيَدِهِ أَنْ ضَعِ الشَّطْرَ مِنْ دَيْنِكَ. قَالَ كَعْبٌ: قَدْ فَعَلْتُ يا رَسُولَ الله. قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "قُمْ فَاقْضِهِ". (¬1)
ومثال الشفاعة التي لم يأخذ بها المشفوع لديه قصة فراق بريرة لزوجها مغيث، وذلك عندما أعتقتها عائشة فخُيِّرَت بين البقاء مع زوجها أو مفارقته، فاختارت مفارقته. وقد شقّ ذلك على زوجها مغيث - وكان شديد الحبّ لها - فاستشفع بالرسول - صلى الله عليه وسلم - فشفع له عندها، لكنها لم تأخذ بشفاعته. وما يبيِّن الفرق بين تصرَّف النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتشريع وتصرفه بغير التشريع أنها - رضي الله عنها - استفسرت - قبل رد طلب الرسول - صلى الله عليه وسلم - هل طلبه - صلى الله عليه وسلم - من باب التشريع الملزم؟ فلا تكون لها الخِيّرة من أمرها، أم أنه غير ذلك؟ فلما أخبرها أنه مجرد شافع أصرَّت على اختيار الفراق. أخرج أبو داود عن ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مُغِيثًا كانَ عَبْدًا فَقَالَ: يا رَسُولَ الله اشْفَعْ لِي إِلَيْهَا فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا بَرِيرَةُ اتَّقي الله فَإِنَّهُ زَوْجُكِ وَأَبُو وَلَدِكِ". فَقَالَتْ: يا رَسُولَ الله أَتَأمُرُنِي بِذَلِكَ؟ قَالَ: "لا، إِنَّمَا أَنَا شَافعٌ". فَكانَ دُمُوعُهُ قَسِيلُ عَلَى خَدِّهِ فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لِلْعَبَّاسِ: "أَلاَ تَعْجَبُ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ وَبُغْضِهَا إِيَّاهُ! ". (¬2)
ومن أمثلة الشفاعة التي لم يأخذ بها المشفوع لديه قصة جابر بن عبد الله لما مات أبوه في غزوة أُحُد وترك ديوناً عليه تعسَّر على جابر أداؤها، فاستشفع بالنبي - صلى الله عليه وسلم - على غرمائه علَّهم يضعوا عنه شيئًا من ديونهم، لكنهم رفضوا، فتدخلت العناية الإلهية متمثِّلة في بركة النبي - صلى الله عليه وسلم - فأدى كلّ الديون دون أن ينقص ذلك من ثمره شيئاً.
¬__________
(¬1) سبق تخريجه.
(¬2) الألباني: صحيح سنن أبي داود، كتاب الطلاق، باب في المملوكة تعتق وهي تحت حرٌّ أو عبد، ج 2، ص 421.

الصفحة 122