كتاب طرق الكشف عن مقاصد الشارع

أخرج البخاري عن الشَّعْبيِّ قال: حَدَّثَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ الله - رضي الله عنهما - أنَّ أَبَاهُ اسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ وَتَرَكَ عَلَيْهِ دَيْنًا وَتَرَكَ سِتَّ بَنَاتٍ فَلَمَّا حَفَرَ جِزَازُ النَّخْلِ قال أَتَيْتُ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ: قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ وَالِدِي قَدِ اسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ وَتَرَكَ دَيْنًا كَثِيرًا وَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَرَاكَ الْغُرَمَاءُ فَقَال: "اذْهَبْ فَبَيْدِرْ كُلَّ تَمْرٍ عَلَى نَاحِيَةٍ". فَفَعَلْتُ، ثُمَّ دَعَوْتُهُ. فَلَمَّا نَظَرُوا إِلَيْهِ كَأَنَّهُمْ أُغْرُوا بِي تِلْكَ السَّاعَةَ. فَلَمَّا رَأَى مَا يَصْنَعُونَ أَطَافَ حَوْلَ أَعْظَمِهَا بَيْدَرًا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ جَلَسَ عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: "ادْعُ لِي أَصْحَابَكَ". فَمَا زَالَ يَكيلُ لَهُمْ حَتَّى أَدَّى الله عَنْ وَالِدِي أَمَانَتَهُ وَأَنَا أَرْضَى أَنْ يُؤَدِّيَ الله أَمَانَةَ وَالِدِي وَلاَ أَرْجِعَ إِلَى أَخَوَاتي بِتَمْرة فَسَلَّمَ الله الْبَيَادِرَ كلَّهَا وَحَتَّى إِنِّي أَنْظُرُ إِلَى الْبَيْدَرِ الَّذِي كاَنَ
عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - كَأَنَّهَا لَمْ تَنْقُصْ تَمْرةً وَاحِدَةً". (¬1)
ومن تصرفاته - صلى الله عليه وسلم - التي فهم منها بعض الصحابة- بناءً على اطلاعهم على سبب الورود - أنها لم تكن من باب التشريع وإنما كانت من باب تدبير الأمور الدنيوية، وخفي سبب الورود على بعض الصحابة فظنُّوه سنّة من السنن فالتزموه، ما أخرجه مسلم عَنْ نَافِعٍ "أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كاَنَ يَرَى التَّحْصِيبَ سُنَّةً وَكاَنَ يُصَلِّي الظُّهْرَ يَوْمَ النَّفْرِ بِالحَصْبَةِ. قال نَافِع قَدْ حَصَّبَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - وَالخلَفَاءُ بَعْدَهُ". (¬2)
ولكن اطّلاع عائشة - رضي الله عنها - على سبب تصرَّف النبي - صلى الله عليه وسلم - جعلها تدرك أن نزوله - صلى الله عليه وسلم - بالأبطح لم يكن سنّاً له، وإنما اختاره لتجميع أصحابه لكونه أنسب مكان للخروج. ولذلك قالت عائشة - رضي الله عنها - فيما رواه البخاري: "إِنَّمَا كاَنَ مَنْزلٌ يَنْزِلُهُ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - لِيَكونَ أَسْمَحَ لِخُرُوجِه. تعني بالأبطح". (¬3) وروى البخاري -أيضاً - عن عطاء، عن ابن عباس، قال: "لَيْسَ التَّحْصِيبُ بِشَيءٍ إِنَّمَا هُوَ مَنزلٌ نَزَلَهُ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - ". (¬4)
ومن القرائن التي تدل على أن الفعل أو القول لم يُقصد به التشريع عدم حرص
¬__________
(¬1) صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب (18)، مج 3، ج 5، ص 38.
(¬2) صحيح مسلم، كتاب الحج، باب (59)، ج 2، ص 951، الحديث (1310).
(¬3) صحيح البخاري، كتاب الحج، باب (148)، مج 1، ج 2، ص 542، الحديث (1765).
(¬4) صحيح البخاري، كتاب الحج، باب (148)، مج 1، ج 2، ص 543، الحديث (1766).

الصفحة 123