كتاب طرق الكشف عن مقاصد الشارع

النبي - صلى الله عليه وسلم -أو الصحابة على تنفيذه.
4 - مقام التأديب: لَمَّا كان القصد من التأديب -في غالب الأحيان- هو زجر النفوس عن اتباع هواها، وردعها عن شهواتها، وقد تكون تلك الشهوات من القوة بحيث تحتاج النَّفس معها إلى رادع قوي، فإن المؤدِّب قد يبالغ في النهي إلى درجة التهديد والتوبيخ، ليكون ذلك أبلغ في الردع والزجر وعلى عِظَم الذنب المنهي عنه تَعْظُم وسيلةُ الزجر والتأديب.
وهذا أسلوب يستعمله المربي والمؤدب والواعظ، ولا يقصد به- عادةً - ظاهره بقدر ما يقصد به الزجر والترهيب. ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيد المربين والمؤدبين، ومن ثم فإنه ليس بِدْعاً أن يستعمل هذا الأسلوب التربوي. وليس معنى كونه لا يقصد به ظاهره عادة أنه ليس بحق، فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يقول إلّا حقاً وصدقاً، وإنما المقصود به أن ظاهره غير مراد بالقصد الأول، وإن قُصِد فبالتَّبَع، أما القصد الأول فهو الزجر والتخويف، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنه لا يُعدّ دعوة إلى تطبيق تلك العقوبة، ولا أمراً بالالتزام بها، وأنها لا تحمل على إطلاقها كما سيأتي في الأحاديث الواردة في نفي الإيمان عن مرتكبي بعض الكبائر حال ارتكابها.
ومن أمثلة ذلك حديث فقء عين من اطلع على قوم من ثقب باب أو جدار دون إذنهم، فقد أهدر النبي - صلى الله عليه وسلم - عينه لو أن أحدهم خذفها بحصاة أو طعنها بمسلة أو غير ذلك.
أخرج البخاري عن أبي هريرة قال: قال أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم -: "لَوْ أَنَّ امْرَأً اطَّلعً عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ فَخَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ لَمْ يَكُن عَلَيْكَ جُنَاح". (¬1)
وأخرج البخاري أيضاً عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: اطَّلَعَ رَجُلٌ مِنْ جُحْرٍ فِي حُجَرِ النَّي - صلى الله عليه وسلم - وَمَعَ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - مِدْرًى يَحُكُّ بِهِ رَأْسَهُ فَقَالَ: "لَوْ أعْلَمُ أنَّكَ تَنْظُرُ لَطعَنْتُ بِهِ فِي عَيْنِكَ إِنَّمَا جُعِلَ الإسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ، (¬2) وفي رواية أخرى أنه قال: "لَوْ
¬__________
(¬1) صحيح البخاري، كتاب الديات، باب (23)، مج 4، ج 8، ص 365، الحديث (6902).
(¬2) صحيح البخاري، كتاب الإستئذان، باب (11)، مج 4، ج 7، ص 168، الحديث (6241).

الصفحة 124