كتاب طرق الكشف عن مقاصد الشارع

أَعْلَمُ أَنْ تَنْتَظِرَنِي لَطَعَنْتُ بِهِ في عَيْنِكَ". (¬1)
والظاهر -والله أعلم- أن قصد الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يكن تشريع عقوبة النظر من غير إذْنٍ بأن تكون فقء عين الناظر، بدليل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يفقأ عين من اطَّلع عليه، وأن من اطّلع على قوم دون إذنهم بطريق تسَوُّرِ الجدار أو فتح الباب أو غيرهما لا يعاقب بذلك. فالحديث ليس أمراً بفقء عين المطَّلِع، ولا دعوة إلى ذلك، وإنما خرج مخرج التحذير من هذا الفعل المشين وتهويله، ولكن لو أن أحدًا طبّق ذلك فعلًا فإنه لا يكون ملوماً، ولا يلومنّ المطَّلِع إلّا نفسه.
ونص الحديث نفسه يحمل من القرائن اللفظية ما يدل على ذلك، فقوله: "ما كان عليك جناج" تفيد أنك لست مطالباً بفعل ذلك ولا مُرَغَّباً فيه، ولكنك إن فعلته دفاعاً عن حرماتك فلا جناح عليك، ومثله قوله: "فلا يلومن إلّا نفسه"، وقوله: "لو أعلم أن تنتظرني".
وقد جعل خفاءُ هذا المقام البعضَ يذهب إلى ردّ الأحاديث الواردة في هذا بحجة أنها تخالف الأصول الشرعيّة المرعيّة في القِصاص. (¬2)
ومن هذا الباب الأحاديث الواردة في نفي الإيمان عن مرتكبي بعض الكبائز
أخرج البخاري عَنْ أَبِي شُرَيح أَنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "والله لا يُؤْمِنُ والله لا يُؤْمِنُ والله لا يُؤْمِنُ! " قِيلَ: وَمَنْ يا رَسُولَ الله؟ قَالَ: "الَّذِي لا يَأمَنُ جَارُهُ بَوَائقَةُ. (¬3)
وأخرج البخاري أيضاً عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنْه قَالَ: قَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلا يَشْرَبُ الخمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنً وَلا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنً وَلا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ". (¬4)
¬__________
(¬1) صحيح البخاري، كتاب الديات، باب (23)، مج 4، ج 8، ص 36، الحديث (6901).
(¬2) انظر ابن قيم الجوزية: إعلام الموقعين عن رب العالمين، تحقيق محمد محيى الدين عيد الحميد، (بيروت: دار الفكر، ط 2، 1397 هـ / 1977 م)، ج 2، ص 336.
(¬3) صحيح البخاري، كتاب الأدب، جاب (29)، مج 4، ج 7، ص 103، الحديث (6016).
(¬4) صحيح البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب (30)، مج 2، ج 3، ص 149، الحديث (2475).

الصفحة 125