كتاب طرق الكشف عن مقاصد الشارع

أولها: تقييد هذه القاعدة بكلمة "الأصل" أي القاعدة العامة، ومعنى ذلك أنه قدى توجد استثناءات سواء في مجال العبادات، أو في مجال العادات، وأنه لا يصح أن يُتَّخَذ ذلك الإستثناء سببًا لنقض القاعدة العامة.
وثانيها: نسبة الأمر إلى المكلف لا إلى الشارع؛ أي أن كون بعض العبادات غير ظاهرة العلل إنما هو بالنسبة للمكلَّف، أما الشارع فإنه لم يشرع حُكْماً إلَّا لحِكْمة ومقصد سام، ظهر منها ما ظهر للمكلفين، وخفي منها ما خفي.
وثالثها: توجيه القاعدة إلى الإلتفات عند العمل، لا إلى أصل الوضع؛ أي أن الأحكام- عبادات كانت أو معاملات- بالنسبة لله تعالى؛ أي في أصل وضعها، معللة، ولم تُشْرع إلَّا لحِكَم ومقاصد من غير تفريق. أما بالنسبة للمكلفين فهم مطالبون بالتفريق بين العبادات والعادات من حيث ما يُبْنَى عليه العمل. فهم مطالبون في العبادات بالإلتفات إلى جانب التعبد؛ أي تحقيق العبودية لله تعالى بالالتزام بتلك العبادات، بغض النظر عن عللها، عُرفت أم لم تُعرف، عُلِم تحقُّقُها من القيام بتلك العبادات أم لم يُعْلَم. فالعبادات قائمة على أساسين: الأول أنها توقيفية، بمعنى أنه لا يُقْدَمُ عليها إلّا بإذن، فلا يمكن الزيادة عليها بحجة أن ما يزاد يحقق نفس العلة التي شُرِعت من أجلها عبادة من العبادات، كما لا يجوز الإنقاص منها أو تركها بحجة أنها لم تتوفر علتها أو أنها لم تحقق الحكمة منها. فليس لقائل -مثلًا- أن يقول إن فلانًا لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر ومن ثَمّ لا
يجب عليه الإلتزام بها. والثاني أنها قائمة على الابتلاء، والابتلاء يقتضي تنفيذ كلّ ما جاء من الشارع الحكيم دون تردُّد ولا اعتراض.
هذا في العبادات، أما في العادات فإن الإلتفات يكون إلى المعاني، وذلك بالبحث عن العلل وإجراء الأحكام على وفقها. لأن العادات هي مَبْنَى أمور الحياة الدنيا، وأمور الحياة تقوم على التدبير القائم على فهم وإدراك المقاصد والعلل، ويمكن الزيادة في المعاملات ما أمكن، ما لم تخالف ما جاء به الشرع، لأن الأصل في العادات الإذن حتى يدلّ الدليل على خلافه. (¬1)
¬__________
(¬1) الشاطبي: الموافقات، مج 1، ج 1، ص 211.

الصفحة 150