كتاب طرق الكشف عن مقاصد الشارع

ثم إن التعليل المنفي في العبادات ليس هو مطلق التعليل، أي التعليل بمعناه العام، فهذا متفق عليه بين الفقهاء، وإنما المنفي هو التعليل القياسي. فالقول بعدم تعليل العبادات موجَّه أساساً إلى إنكار خضوعها للقياس؛ فالذي ينكر -مثلاً- جواز إخراج قيمة الشاة في الزكاة بناءً على كون العبادات غير معللة، ليس معناه أنه ينكر كون الزكاة شرعت لتحقيق حِكَم ومقاصد. فهو لا ينكر مطلق التعليل، وإنما يرى أن المقدار والصنف الذي يخرج على وجه الزكاة عبادة توقيفية لا يجوز تخطيها، وأن الشارع ما خصها بالتشريع إلّا لكونها محققة للحِكْمة التي قصدها من الزكاة.
وقد أشار الشاطبي إلى هذا عند تفسيره لمعنى التعبد عند الفقهاء حيث قال: "ومعنى التعبد عندهم أنه ما لا يعقل معناه على الخصوص" (¬1)، أي أن التعبد نفي العلل الخاصة التي تصلح أن تكون أساساً للقياس، لا نفي التعليل بمعناه العام الذي لا يخلو منه حُكْم شرعي. (¬2)
وينبغي الإشارة إلى أنه حتى مع القول بالتعليل في العبادات استناداً إلى ما نص عليه القرآن الكريم والسنة النبوية من حِكَم ومقاصد لتلك العبادات فإن القول بالتعليل فيها يلاحظ عليه أمران:
الأول: أنه باستثناء ما نص عليه الشارع من علل وحِكَم لِمَا شرع من عبادات، فإن ما اجتهد فيه الباحثون عن أسرار التشريع يبقى أمراً مظنوناً ومجرد تخمين، وقد أدت المبالغة في ذلك بالبعض إلى المجيء بالغرائب، ومن هذا المنطلق جاءت كراهية البعض للمبالغة في المبحث عن تلك الأسرار.
الثاني: أنه مع التسليم بالقول بتعليل كثير من العبادات، فإن هذا التعليل لا يُغْني في عملية الإجتهاد الفقهي في استنباط الأحكام الشرعية؛ فمع التسليم -مثلاً- بتعليل فرض الصلاة عموماً وأجزائها من ركوع وسجود خصوصاً بما ذكره العلماء
¬__________
(¬1) الشاطبي: الموافقات، مج 1، ج 2، ص 241.
(¬2) وقد أشار إلى هذا المعنى الشيخ عبد الله دراز في تعليقه على كلام الشاطبي المذكور. انظر المصدر السابق، مج 1، ج 2، ص 240، هامش رقم (3).

الصفحة 151