كتاب طرق الكشف عن مقاصد الشارع

وهناك ذرائع كثيرة لم يرد في عينها نص ولا إجماع، ولكنها عند النظر فيها يتبيّن ما تؤدي إليه من فساد راجح على ما يرجى منها من مصالح فيُفْتَى بسدِّها وإن لم يرد في عينها نص ولا إجماع، ويكون مستَنَدُ ذلك ملاءمة ذلك المنع لما عُهِد من الشارعَ مِنْ منعٍ في جنس الذرائع المقطوع أو الغالب على الظن أنها تؤدي إلى حرام أو ينتج عنها مفسدة أعظم مما يُتَذَرَّع به من مصلحة. وبستخلص من ذلك كون الشارع قاصداً إلى سدّ هذا النوع من الذرائع.
3 - المناسب الغريب: وقد عرفه الغزالي بأنه "الذي لم يظهر تأثيره ولا ملاءمته لجنس تصرفات الشرع". (¬1) وعرفه البيضاوي بأنه "ما أثر نوعه في نوع الحكم ولم يؤثر جنسه في جنسه". (¬2) فهو المناسب الذي لم يشهد باعتباره سوى أصله المعين، دون أن يوجد شاهد لجنسه، ولذلك سمي غريباً؛ لأنه شهد لنوعه حكم واحد.
ومثلوا له بتوريث المطلقة ثلاثاً في مرض الموت معاملة للزوج بنقيض قصده، لأنه إنما قصد من تطليقها طلاقاً باتّاً حرمانها من الميراث، ولم يكن الطلاق لسبب مشروع. ووجه غرابته أن مثل هذه المعاملة (المعاملة بنقيض القصد) لم تُعْهَد في تصرفات الشارع إلّا في حالة واحدة هي حرمان القاتل من الميراث معاملة له بنقيض قصده إذْ استعجل الميراث بقتل مورثه. ولم يُعْهَد من الشارع في غير هذا الموضع معاملة المتصرف بنقيض قصده.
وهذا المثال فيه نظر، فإن معاملة الوارث القاتل بنقيض قصده إنما قَصَد منه الشارع سدّ ذرائع سفك الدماء، فهو في الواقع فرع من فروع باب سدّ الذرائع، وسدّ الشارع لذرائع الفساد ليس غريباً في نصوصه وأحكامه، بل هو منتشر انتشاراً واسعاً في نصوص القرآن والسنة وأحكامهما وفي اجتهادات الفقهاء بعد ذلك.
وقد فهم سيدنا عثمان - رضي الله عنه - هذا المقصد فقال بتوريث المطلقة ثلاثاً في مرض الموت (¬3)
¬__________
(¬1) الغزالي: المستصفى، ج 2، ص 136.
(¬2) انظر شلبي: تعليل الأحكام، ص 249.
(¬3) انظر البيهقي: السنن الكبرى، كتاب الخلع والطلاق، باب "ما جاء في توريث المبتوثة في مرض الموت"، ج 7، ص 362 - 363.

الصفحة 166