كتاب طرق الكشف عن مقاصد الشارع

وبذلك يتبيّن أن مجرّد المناسبة (أي تلتي العقل السليم بالقبول لمصحلة من المصالح) وحدها لا تحني في عدِّ مصلحة من المصالح مقصداً من مقاصد الشارع المعتبرة، كما أنه لم يكتفِ الأصوليون بالمناسبة وحدها في الحكم على وصف من الأوصاف بكونه العلة، وإنما لا بُدّ أن ينضاف إلى المناسبة شهادةُ الشرع شهادةً خاصة بدلالة النص أو الإجماع على قبولها أو بملاءمتها لأحكام الشارع، أو شهادة عامةً بأن يشهد لجنسها -ولو العالي- شاهد من الشرع. (¬1)
وما اشترطه الغزالي ومن تبعه في المصلحة المرسلة حتى تكون معتبرة من كونها ضرورية كليّة قطعيّة، (¬2) إنما هو محاولة لضبط باب المصالح حتى لا ينسب كلُّ مدَّعٍ ما شاء مما يظنه مصلحة إلى الشارع الحكيم. (¬3) وهي في الحقيقة لا يمكن اعتبارها شروطاً للمصلحة المرسلة، وإنما هي شروط لِتَحَقُّقِ معنى الضرورة التي يبطل بها الحظر طبقاً للقاعدة الفقهية "الضرورات تبيح المحظورات"، فالمصلحة التي ينبغي تقييدها بهذه الشروط هي المصلحة التي ورد ما يعارضها في الشرع أو التي لم تَجْرِ لها وفق معهود الشرع في تشريعه، ومع ذلك اضطر الناس إليها أو مسّت حاجتهم إليها فعند ذلك يُشترط فيها لتقديمها على النص ما اشترطه الغزالي من كونها عامة وكليّة وضرورية، وعندئذ لا تصير من باب تقديم المصلحة على النص، وإنما من باب "الضرورات تبيح المحظورات".
ويتضح هذا من خلال المثال الذي مثّل به الغزالي لهذا النوع من المرسل، وهو مثال تَتَرُّسِ الكفار بمجموعة من المسلمين، حيث لا يمكن دفع الكفار إلّا بقتل المسلمين المتتَرَّس بهم. (¬4) فقتل المسلمين في أصله حرام ودفع الكفار حال الخوف من تسلطهم على المسلمين واجب، ومصلحة دفع الكفار يترتب عليها ارتكاب محرَّم -بل كبيرة من الكبائر- وهو قتل نفوس مؤمنة، فلذلك احتيج في مثل هذه المصلحة
¬__________
(¬1) انظر الشاطبي: الإعتصام، ج 2، ص 352؛ الغزالي: المستصفى، ج 2، ص 135.
(¬2) انظر الغزالي: المستصفى، ج 1، ص 218.
(¬3) انظر الغزالي: المستصفى، ج 1، ص 216.
(¬4) انظر المصدر السابق، ج 1، ص 218، 222.

الصفحة 169