كتاب طرق الكشف عن مقاصد الشارع

مثل هذا السكوت لا يُعدّ إقراراً للفعل على الإطلاق، وإنما يُفَرَّقُ بين كون الفاعل مسلماً، أو غير مسلم: منافقاً كان أو كافراً. فإذا كان الفاعل مسلماً فإن سكوته - صلى الله عليه وسلم - يدلّ على الإباحةِ إن لم يسبق تحريمه، ونسخِ الحظر أو الوجوب السابق إن كان هناك واحد منهما. ودليل هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مأمور بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيَبْعُدُ أن يكون سكوتُه إحالةً على ما هو معلوم من ححم ذلك الفعل من وجوب أو حظر؛ إذْ في ذلك إقرار للمنكر ولا يمكن أن يقع منه - صلى الله عليه وسلم - ذلك. ونسب إلى القاضي الباقلاني القول بأن السكوت لا يدلّ على الجواز ولا على النسخ؛ لأن السكوت وعدم الإنكار مُحْتَمِل، (¬1) فقد يكون سكوته - صلى الله عليه وسلم - لعلمه بأن الفاعل حديث عهد بالإسلام لم يبلغه التحريم بعد فلم يكن الفعل عليه إذْ ذاك حراماً، وقد يكون سكوته لأنه أنكر عليه من قَبْلُ فعاند ولم ينزجر فرأى - صلى الله عليه وسلم - أن تكرار الإنكار عليه غير مُجْدٍ.
وما ذكره هؤلاء من احتمالات غير مؤسس، لأن احتمال عدم علم الفاعل بالتحريم لا يستدعي السكوت عليه، بل تبليغه وتعليمه، (¬2) وهي مهمة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، واحتمال كونه أنكر عليه من قَبْل فلم ينتهِ غير مُسَلَّم أيضاً؛ إذْ عدم الإنتهاء لا يستلزم ترك الإنكار والتذكير كيف والله تعالى يقول له: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)} [الذاريات: 55].
أما إذا كان الفاعل منافقاً معلوم النفاق، أو كافراً فإن سكوته - صلى الله عليه وسلم - لا يدلّ على إقرار الفعل وإنما هو إحالة على ما عُلِم من أحكام تلك الأفعال، كما وقع منه - صلى الله عليه وسلم - من إقرار أهل الكتاب على ممارسة عقائدهم وشعائرهم الشركيّة، فليس في ذلك إقرار لذات الأفعال وتصحيح لها، وإنما إحالة على ما ظهر واستفاض من أحكام الشريعة في تلك العقائد والشعائر فالسكوت عنها من باب عدم توفر داعي الإنكار (¬3)
ومن هذا النوع من السكوت سكوتُ الشارع عما يفهم بمفهوم الموافقة، أو
¬__________
(¬1) انظر الزركشي: البحر المحيط، ج 4، ص 202.
(¬2) انظر عبد العزيز البخاري: كشف الأسرار، ج 3، ص 287 - 288.
(¬3) انظر عبد العزيز البخاري: كشف الأسرار، ج 3، ص 287

الصفحة 185