كتاب طرق الكشف عن مقاصد الشارع

الشريعة الإِسلامية، حيث جعل من مقاصد كتابه التوسل إلى "إقلال الإختلاف بين فقهاء الأمصار, ودُرْبَة لأتباعهم على الإنصاف في ترجيح بعض الأقوال على بعض". (¬1) ولكنه لم يَسْلَم من الوقوع في المقدمات الخطابية التي عابها على الشاطبي؛ فمع أنه وصف مقاصد الشريعة بأنها تسهم في إقلال الإختلاف لا في رفعه كُلَّيَّة، وهو الصواب، إلّا أنه وصفها بعد ذلك بأنها "الفصل من القول إذا شجرت حجج المذاهب"، (¬2) وشبَّه ما سيدوِّنه من مقاصد الشريعة بالأدلة الضرورية القطعية التي يحتكم إليها أصحاب العلوم العقلية في حجاجهم المنطقي والفلسفي.
أما عن وصف قواعد المقاصد بوصف القطعية فإنه يمكن القول إن المقاصد العامة للشريعة كلها قطعية لا يتنازع فيها أصحاب المذاهب والاتجاهات الفقهية المختلفة، ولكن السؤال هو هل قطعيَّةُ تلك القواعد المقصدية كفيلة برفع الخلاف الفقهي فيما يندرج تحتها من فروع؟ وهل قطعيتها تعني قطعية جزئياتها؟ لا شك أن الجواب سيكون بالنفي.
فمثلًا كون "دين الله يسرًا" وأن من مقاصد الشريعة الإِسلامية التيسير أمر قطعي لا خلاف فيه، ولكن تطبيق هذه القاعدة على الفروع لا يمكن أن يتوفر فيه وصفُ القطعية في كل الحالات، ولا بُدّ أن يقع فيه خلاف بين أهل النظر: ما هو الحرج الذي يقتضي التيسير والذي لا يقتضيه؟ فهناك حَدٌّ يتّفق الكلّ على اقتضائه التيسير, وآخر يتفقون على عدم اقتضائه التيسير, ولكن بينهما درجات ستكون محلّ اختلاف في التقدير, ولا يمكن لأحد أن يقطع فيها بشيء. وكذلك كونُ الشارع قاصدًا إلى إبطال الغرر, ودفع الضرر, وسدِّ ذرائع الفساد، كلها مقاصد قطعية، ولكن على الجملة لا على التفصيل، ويقال فيها ما قيل في كون الشارع قاصدًا إلى التيسير وسيقع فيها الخلاف في التقدير كما يقع في تلك، وتكون الخلاصة أنه كما لم تتمكّن قواعد الأصول من رفع الخلاف فإن قواعد المقاصد لن تكون أحسن حالًا.
¬__________
(¬1) انظر محمد الطاهر بن عاشور: مقاصد الشريعة الإِسلامية، 105.
(¬2) المصدر السابق، ص 105 بتصرف يسير، حيث وردت الأصل بعبارة "وفصل من القول ... ".

الصفحة 40