كتاب طرق الكشف عن مقاصد الشارع

كان ابن عمر - رضي الله عنهما - متحيرًا من ذلك إلى أن سمع حديث عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لها: "أَلَمْ تَرَيْ أنّ قَومَكِ لَمَّا بَنوا الكَعْبَة اقْتَصَرُوا عَنْ قَوَاعِد إِبْرَاهِيم؟ " فَقُلْت: يا رَسُول الله أَلاَ تَرُدُّها عَلَى قَوَاعَد إِبْرَاهيمَ؟ قال: "لَوْلاَ حِدْثَانُ قَومِكِ بِالكُفْرِ لَفَعَلْتُ"، وفي رواية أخرى أن عائشة - رضي الله عنها - قالت: سَأَلْتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - عَن الجَدْرِ (¬1) أَمِن الْبَيْتِ هُو؟ قَالَ: "نَعَمْ". قُلْتُ: فَمَالَهُم لَمْ يُدْخِلُوُه فيِ البَيْتِ؟ قَالَ: "إِنَّ قَوْمَكِ قَصَّرَتْ بِهِمُ النَّفَقَةُ". وبناءً على رواية عائشة هذه فهم ابن عمر حكمة ذلك التفريق، وانثلج له صدره، وقال: "لَئِن كانَت عَائِشَة سَمِعَت هَذَا مِنْ رَسُولِ الله، مَا أُرَى رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - تَرَكَ اسْتِلاَمَ الرُّكْنَيْنِ اللَّذينِ يَلِيَانِ الحِجْر إلّا أَنّ البَيْتَ لَمْ يُتَمَّم عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيم". (¬2)
ثالثًا - الإستعانة بالمقاصد في فهم النصوص وتوجيهها:
ويكون هذا على الخصوص في النصوص ظنية الدلالة؛ إذْ يستعين المجتهد بالمقاصد في فهم النصوص واختيار المعنى المناسب لتلك المقاصد، وتوجيه معنى النص بما يخدمها، وقد يصل الأمر بالمجتهد إلى تأويل النص، وصرفه عن ظاهره في حال مخالفة ذلك المعنى الظاهر لمقاصد الشريعة وكلّياتها.
ومن أمثلة هذا ما ورد من نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كراء الأرض، وموقف الصحابة والتابعين والفقهاء من بعدهم من أحاديث النهي هذه، وكيفية توجيههم لها تبعًا لما فهموه من مقاصد النهي. (¬3)
الأحاديث الواردة في النهي:
من الأحاديث التي وردت في النهي عن كراء الأرض ما يأتي:
1 - ما رواه البخاري من حديث جابر - رضي الله عنه - أنه قال: "كانت لرجال فضول من
¬__________
(¬1) الجَدْر: الحائط. انظر ابن منظور: لسان العرب، ج 4، ص 121. والمراد هنا الجدار المحيط بحِجْر إسماعيل عليه السلام.
(¬2) صحيح البخاري، كتاب الحج، باب (42)، مج 1، الحديث (1583) و (1584)، ج 2، ص 490.
(¬3) انظر عرض ابن عاشور وتعليقه على هذا المثال في مقاصد الشريعة الإِسلامية، ص 130 - 132.

الصفحة 44