كتاب طرق الكشف عن مقاصد الشارع

المستفتين، ولَمَّا كانت مقاصد الشارع واحدةً لجميع المستفتين، وفي مختلف الظروف، وكان مدى تحقيق هذه المقاصد يخضع لحالة المستفتي، وظروف الفتوى، كان من اللازم على المفتي أن يتصرف في فتواه بما يحقق تلك المقاصد الثابتة والمشتركة، ومن ثَمَّ وجب مراعاة المرونة في الفتوى لتتغير بتغير ظروف وملابسات المفتي والواقعة محل الفتوى. فالمقصد ثابت ومشترك بين جميع الناس، والذي يتغير بتغير الشخص أو الظرف هو الفتوى، ويكون تغيرها بما يحقق ذلك المقصد.
ومن أمثلة ذلك قصة ابن عباس مع الرجل الذي استفتاه أَلِلْقَاتِلِ تَوْبَةٌ؟ فقد روي أنه: "جاء رجل إلى ابن عباس، فقال: أَلِمَن قَتَل مؤمنًا متعمدًا توبة؟ قال: لا، إلَّا النار قال: فلما ذهب قال له جلساؤه: أهكذا كُنْتَ تُفْتينا؟ كنت تفتينا أنَّ لِمَن قَتَلَ تَوْبَةٌ مَقْبُولَةٌ؟ قال: إني لأحسبه مغضبًا، يريد أن يقتل مؤمنًا، قال: فبعثوا في أثره، فوجدوه كذلك". (¬1)
فلما كان قصد الشارع من الحضِّ على التوبة والترغيب فيها هو تطهير نفوس الناس، وردهم إلى طريق الحق والصواب، وتنفيرهم من الذنوب والمعاصي، وكان ذلك الرجل يريد التوسل بالتوبة إلى نقيض ما قصد الشارع منها، كان تحقيق المقصد من التوبة في سَدّ بابها في وجهه، فأفتاه ابن عباس بأن لا توبة له، لعلّ ذلك يردعه عمّا يريد الإقدام عليه، ويردُّه إلى طريق الصواب.
خامسًا - الحاجة إلى معرفة المقاصد في استنباط علل الأحكام الشرعية لِتُتَّخَذّ أساسًا للقياس:
ذلك أن العلل الشرعية تكون عادة ضابطة لحِكَمٍ، التي هي من المقاصد، فيكون معرفة المقاصد عونًا على تحديد العلل وإثباتها. وعلى رأي القائلين بجواز التعليل بالحِكْمة مطلقًا، أو بشرط انضباطها يكون الكشف عن المقاصد (التي منها
¬__________
(¬1) أخرجه أبو جعفر النحاس عن سعد بن عبيدة: الناسخ والمنسوخ، تحقيق محمد عبد السلام محمد، (الكويت: مكتبة الفلاح، ط 1، 1408 هـ / 1988 م)، ص 349. إسناده صحيح، وأخرجه ابن أبي شيبة -في الديات- من قال للقائل توبة 9/ 362.

الصفحة 48