كتاب طرق الكشف عن مقاصد الشارع

لمقاصدها العامة أو بعض مقاصدها الأساسية، وعلة ذلك الرد كونُ تلك الأصول والمقاصد قطعية في الشريعة، أما أحاديث الآحاد فإنها ظنية، فإذا وقع تعارض بينهما رُجِّحَ القطعي على الظني. وقد عالج الإمام الشاطبي هذا في المسألة الثانية من الطرف الأول من كتاب الأدلة الشرعية في كتابه الموافقات معالجة تحسن الإشارة إليها، حيث قسم أحاديث الآحاد في علاقتها بكلّيات الشريعة وقطعياتها إلى ثلاثة أقسام: (¬1)
القسم الأول: أحاديث الآحاد (الظنيات) الراجعة إلى أصل قطعي، أي التي تمثل بيانًا لتلك الأصول كأحاديث الطهارة، والصلاة، والحج، والصوم، والبيوع، والربا، وغيرها. وإعمالها ظاهر لكونها مستندة إلى أصل قطعي، فتصير في حكم القطعي، ولقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44].
القسم الثاني: أحاديث الآحاد (الظنيات) المعارضة لأصل قطعي، ولا يشهد لها أصل قطعي، أما شهادة أصل ظني لها فغير معتبرة، لأن الظني ولو كان أصلاً لا يقف في وجه - الأصل القطعي. ويرى الشاطبي أن هذا النوع مردود بلا إشكال. واستدلّ على ذلك بدليلين:
الأول: أن مخالفتها لأصول الشريعة تجعلها خارجة عنها، وما هو خارج عنها لا يمكن اعتباره منها، وبالتالي فهو مردود غير مقبول، والثاني: أنه ليس له ما يشهد بصحته، وما كان كذلك فهو ساقط الإعتبار.
ولكن الشاطبي أدرك خطورة هذا الإطلاق فعاد ليستدرك عليه بجعل هذا القسم على ضربين: أحدهما أن تكون مخالفته للأصول قطعية، فلا بُدّ من ردِّه، والآخر أن تكون المخالفة ظنية، وتكون هذه الظنية من ناحيتين: إما من ناحية كون الأصل أو المقصد المخالَف غير قطعي عند التحقيق، ومن ثَمَّ يصير التعارض بين ظنيين تُحكَّم فيه قواعد الترجيح، وإما من ناحية كون الدليل الظني (خبر الآحاد) غير مقطوع بمعارضته للأصول أو المقاصد القطعية، فيمكن الجمع بينهما بضرب من أضرب التأويل، بحمل الظني على معنى لا يخالف القطعي. وهذا الضرب
¬__________
(¬1) انظر في ذلك الشاطبي: الموافقات، ج 3، ص 11 - 18.

الصفحة 51