كتاب الملل والنحل (اسم الجزء: 2)

الأول هو قابل كل صورة, أي منبع الصور كلها, فأثبت في العالم الجسماني له مثالا يوازيه في قبول الصور كلها، ولم يجد عنصرا على هذا النهج مثل الماء، فجعله المبدع الأول في المركبات، وأنشأ منه الأجسام والأجرام السماوية والأرضية.
وفي التوراة في السفر الأول منها أن مبدأ الخلق هو جوهر خلقه الله تعالى، ثم نظر إليه نظر الهيبة، فذابت أجزاؤه فصارت ماء، ثم ثار من الماء بخار مثل الدخان، فخلق منه السموات، وظهر على وجه الماء زبد مثل زبد البحر، فخلق منه الأرض ثم أرساها بالجبال. وكأن تاليس الملطي إنما تلقى مذهبه من هذه المشكاة النبوية.
والذي أثبته من العنصر الأول الذي هو منبع الصور شديد الشبه باللوح المحفوظ المذكور في الكتب الإلهية، إذ فيه جميع أحكام المعلومات، وصور جميع الموجودات، والخبر عن الكائنات.
والماء على القول الثاني شديد الشبه بالماء الذي عليه العرش: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء} 1.
__________
1 هود آية 7.
2- رأي انكساغورس 2:
وهو أيضا من أهل ملطية. رأي في الوحدانية مثل ما رأى تاليس, وخالفه في
__________
2 611 ق. م - 547 ق. م تقريبا. قصة الفلسفة اليونانية ص23 "وكان تلميذا لطاليس لأنه عاصره وعاش معه. وقد خالف أستاذه في كون الماء أصل الوجود. فمهما بلغ الماء من المرونة وقابلية التشكل فهو ذو صفات معروفة معينة تستطيع أن تميزه بها عن المواد الأخرى. ومعنى ذلك أن ثمة صفات تناقض صفات الماء، لأنك لا تدرك الصفة إلا إذا أدركت نقيضها. فلا تفهم الحرارة إلا إذا اقترنت في ذهنك بالبرودة. فإذا انعدم هذا التقابل انعدمت كذلك الخصائص والصفات. وما دام الأمر كذلك فلا يعقل أن تكون المخلوقات جميعا على تناقض صفاتها مشتقة من أصل واحد ذي صفة معينة معروفة. وإنما أصل الكون مادة لا شكل لها ولا نهاية ولا حدود".
"وقوله هذا الذي أشرنا إليه مردود عليه، لأنه لا يمكن كذلك أن تنشأ الأشياء، كلها ولها هذه الصفات المختلفة من مادة لا شكل لها. وإلا فمن أين جاءت صفات الحديد والنحاس والخشب وما إلى ذلك وهي مختلفة كل الاختلاف مع أنها اشتقت جميعا من مادة واحدة لا تميزها صفات كما يقول؟ ".

الصفحة 122