كتاب الملل والنحل (اسم الجزء: 2)

على أنها أمور خارجة عنه فيعقلها منها كحالنا عند المحسوسات, بل يعقلها من ذاته، وليس كونه عاقلا وعقلا بسبب وجود الأشياء المعقولة، حتى يكون وجودها قد جعله عقلا، بل الأمر بالعكس، أي عقله للأشياء جعلها موجودة. وليس للأول شيء يكمله، فهو الكامل لذاته، المكمل لغيره، فلا يستفيد وجوده من وجود كمالا. وأيضا فإنه لو كان يعقل الأشياء من الأشياء، لكان وجودها متقدما على وجوده، ويكون جوهره في نفسه، وفي قوامه، وفي طباعه أن يقبل معقولات الأشياء من الأشياء، فيكون في طباعه ما هو بالقوة من حيث يكمل بما هو خارج عنه، حتى يقال: لولا ما هو خارج عنه لم يكن له ذلك المعنى، وكان فيه عدمها، فيكون الذي له في طباع نفسه وباعتبار نفسه من غير إضافة إلى غيره أن يكون عادما للمعقولات، ومن شأنه أن يكون له ذلك، فيكون باعتبار نفسه مخالطا للإمكان والقوة. وإذا فرضنا أنه لم يزل ولا يزال موجودا بالفعل، فيجب أن يكون له من ذاته الأمر الأكمل الأفضل لا من غيره.
قال: وإذا عقل ذاته عقل ما يلزمها لذاتها بالفعل، وعقل كونه مبدأ، وعقل كل ما يصدر عنه على ترتيب الصدور عنه، وإلا فلم يعقل ذاته بكنهها.
قال: وإن كان ليس يعقل بالفعل، فما الشيء الكريم الذي له وهو الكون الناقص كماله؟! فيكون حاله كحال النائم، وإن كان يعقل الأشياء من الأشياء فتكون الأشياء متقدمة عليه بتقدم ما يقبله ذاته، وإن كان يعقل الأشياء من ذاته فهو المرام والمطلب. وقد يعبر عن هذا الغرض بعبارة أخرى تؤدي قريبا من هذا المعنى، فيقول إن كان جوهره العقل وأن يعقل، فإما أن يعقل. ذاته، أو غيره، فإن كان يعقل شيئا آخر فما هو في حد ذاته غير مضاف إلى ما يعقله؟ وهل لهذا المعتبر بنفسه فضل وجلال مناسب لأن يعقل، بأن يكون بعض الأحوال أن يعقل له أفضل من أن لا يعقل؟ أو بأن لا يعقل يكون له أفضل من أن يعقل؟ فإنه لا يمكن القسم الآخر وهو أن يكون يعقل الشيء الآخر، أفضل من الذي له

الصفحة 181