كتاب الملل والنحل (اسم الجزء: 2)

وكذلك في المعنى عند من لم يتدرب. فأوهمت عباراتهم أن فعل الأول الحق فعل زماني، وأن تقدمه تقدم زماني.
قال: ونحن أثبتنا أن الحركات تحتاج إلى محرك غير متحرك.
ثم نقول: الحركات لا تخلو إما ان تكون لم تزل، أو تكون قد حدثت بعد أن لم تكن، وقد كان المحرك لها موجودا بالفعل قادرا، ليس يمانعه مانع من أن تكون عنه، ولا حدث حادث في حال ما أحدثها فرغبه وحمله على الفعل، إذن كان جميع ما يحدث إنما يحدث عنه، وليس شيء غيره يعوقه أو يرغبه, ولا يمكن أن يقال: قد كان لا يقدر أن يكون عنه مقدور فقدر، أو لم يرد فأراد، أو لم يعلم فعلم. فإن ذلك كله يوجب الاستحالة، ويوجب أن يكون شيئا آخر غيره هو الذي أحاله. وإن قلنا إنه منعه مانع يلزم أن يكون السبب المانع أقوى، والاستحالة والتغير عن المانع حركة أخرى استدعت محركا. وبالجملة: كل سبب ينسب إليه الحادث في زمان حدوثه بعد جوازه في زمان قبله وبعده فإن ذلك السبب جزئي خاص أوجب حدوث تلك الحادثة التي لم تكن قبل ذلك، وإلا فالإرادة الكلية، والقدرة الشاملة، والعلم الواسع العام ليس يختص بزمان دون زمان، بل نسبته إلى الأزمان كلها نسبة واحدة، فلا بد لكل حادث من سبب حادث، ويتعالى عنه الواحد الحق الذي لا يجوز عليه التغيير والاستحالة.
قال: وإذا كان لا بد من محرك للمحركات، ومن حامل للحركات تبين أن المحرك سرمدي، والحركات سرمدية، فالمتحركات سرمدية. فإن قيل: إن حامل الحركة, وهو الجسم, لم يحدث، لكنه تحرك عن سكون, وجب أن يعثر على السبب الذي يغير من السكون إلى الحركة. فإن قلنا: إن ذلك الجسم حدث، فقد تقدم حدوث الجسم حدوث الحركة. فقد بان أن الحركة، والمتحرك، والزمان الذي هو عاد للحركة أزلية سرمدية.

الصفحة 188