كتاب الملل والنحل (اسم الجزء: 2)

قالت الصابئة:
الروحانيات: نورانية، علوية، لطيفة1، والجسمانيات: ظلمانية، سفلية، كثيفة، فكيف يتساويان والاعتبار في الشرف والفضيلة بذوات الأشياء، وصفاتها، ومراكزها، ومحالها؟. فعالم الروحانيات: العلو لغاية النور واللطافة، وعالم الجسمانيات: السفل لغاية الكثافة والظلمة. العالمان متقابلان، والكمال للعلوي لا للسفلي. والصفتان متقابلتان، والفضيلة للنور لا للظلمة.
أجابت الحنفاء:
قالوا: لسنا نوافقكم أولا على أن الروحانيات كلها نورانية، ولا نساعدكم ثانيا أن الشرف للعلو، ولا نساهلكم أصلا أن الاعتبار في الشرف بذوات الأشياء.
وعلينا بيان هذه المقدمات الثلاث، فإن فيها فوائد كثيرة.
أما الأولى؛ فقالوا: حكمتم على الروحانيات حكم التساوي، وما اعتبرتم فيها التضاد والترتب. وإذا كانت الموجودات كلها, روحانيها وجسمانيها, على قضية التضاد والترتب، فلما أغفلتم الحكمين ههنا؟! وذلك أن من قال: الروحاني هو ما ليس بجسماني، فقد أدخل جواهر الشياطين والأبالسة والأراكنة2 في جملة الروحانيات، وكذلك من أثبت الجن أثبتها روحانية لا جسمانية. ثم من الجن من هو مسلم, ومنها من هو ظالم. ومن قال الروحاني هو المخلوق روحا، فمن الأرواح ما هو خير، ومنها ما هو شرير. والأرواح الخبيثة أضداد الأرواح الطيبة، فلا بد إذن من إثبات تضاد بين الجنسين، وتنافر بين الطرفين. فلم نسلم دعواكم أنها كلها نورانية.
بلى: وعندنا, معاشر الحنفاء, الروح هو الحاصل بأمر الباري تعالى, الباقي على مقتضى أمره فمن كان لأمره تعالى أطوع، وبرسالات رسله أصدق كانت الروحانية
__________
1 لطف لطفا ولطافة: صغر ودق فهو لطيف "ضد ضخم وكثف".
2 أصل الأركون: الرئيس والمقدم والدهقان المعظم، وهي يونانية.

الصفحة 75