كتاب الملل والنحل (اسم الجزء: 2)

ثم يتضمن ذلك حصول نظام في الجزئي تبعا لا مقصودا. وهذا الاختيار والإرادة على جهة سنة الله تعالى في اختياره ومشيئته للكائنات، لأن مشيئته تعالى كلية متعلقة بنظام الكل، غير معللة بعلة، حتى لا يقال إنما اختار هذا لكذا، وإنما فعل هذا لكذا، فلكل شيء علة ولا علة لصنعه تعالى، بل لا يريد إلا كما علم. وذلك أيضا ليس بتعليل، لكنه بيان أن إرادته أعلى من أن تتعلق بشيء لعلة دونها، وإلا لكان ذلك الشيء حاملا له على ما يريد. وخالق العلل والمعلولات لا يكون محمولا على شيء، فاختياره لا يكون معللا بشيء. واختياره الرسول المبعوث من جهته ينوب عن اختياره، كما أن أمره ينوب عن أمره، فيسلك سبل ربه ذللا1، ثم يخرج من قضية اختياره نظام حال وقوام أمر مختلف ألوانه، فيه شفاء للناس. فمن أين للروحانيات هذه المنزلة؟ وكيف يصلون إلى هذه الدرجة؟
كيف، وكل ما يذكرونه، فموهوم، وكل ما يذكره النبي فمحقق مشاهدة، وعيان. بل وكل ما يحكى عن الروحانيات من كمال علمهم، وقدرتهم، ونفوذ اختيارهم، واستطاعتهم، فإنما أخبرنا بذلك الأنبياء والمرسلون عليهم السلام. وإلا فأي دليل أرشدنا إلى ذلك ونحن لم نشاهدهم، ولم نستدل بفعل من أفعالهم على صفاتهم وأحوالهم؟
قالت الصابئة:
الروحانيون متخصصون بالهياكل العلوية، مثل زحل، والمشتري، والمريخ، والشمس، والزهرة، وعطارد، والقمر، وهذه السيارات كالأبدان والأشخاص بالنسبة إليها، وكل ما يحدث من الموجودات، ويعرض من الحوادث، فكلها مسببات هذه الأسباب، وآثار هذه العلويات، فيفيض على هذه العلويات من الروحانيات تصريفات وتحريكات إلى جهات الخير والنظام، ويحصل من حركاتها واتصالاتها تركيبات وتأليفات في هذا العالم، ويحدث في المركبات أحوال ومناسبات فهم الأسباب الأول،
__________
1 ذللا: جمع ذلول، وهي حال من السبل. والمعنى مسخرة فلا تعسر عليه.

الصفحة 86