كتاب الملل والنحل (اسم الجزء: 3)

وإنما عبادتهم لها أن يحفروا أخدودا مربعا في الأرض، ويؤججو النار فيه، ثم لا يدعون طعاما لذيذا، ولا شرابا لطيفا، ولا ثوبا فاخرا، ولا عطرا فائحا، ولا جوهرا نفيا إلا طرحوه فيها، تقربا إليها وتبركا بها, وحرموا إلقاء النفوس فيها، وإحراق الأبدان بها خلافا لجماعة أخرى من زهاد الهند.
وعلى هذا المذهب أكثر ملوك الهند وعظائها. يعظمون النار لجوهرها تعظيما بالغا، ويقدمونها على الموجودات كلها.
ومنهم زهاد وعباد يجلسون حول النار صائمين يسدون منافسهم حتى لا يصل إليها من أنفاسهم نفس صدر عن صدر محرم.
وسنتهم: الحث على الأخلاق الحسنة، والمنع من أضدادها، وهي الكذب، والحسد، والحقد، واللجاج، والبغي، والحرص، والبطر. فإذا تجرد الإنسان عنها قرب من النار، وتقرب إليها.
الفصل الخامس: حكماء الهند
كان لفيثاغورس الحكيم اليوناني تلميذ يدعي قلانوس، قد تلقى الحكمة منه، وتلمذ له، ثم صار إلى مدينة من مدائن الهند، وأشاع فيها مذهب فيثاغورس.
وكان برخمنين رجلا جيد الذهن، نافذ البصيرة، صائب الفكر، راغبا في معرفة العوالم العلوية. قد أخذ من قلانوس الحكيم حكمته، واستفاد منه علمه وصنعته. فلما توفي قلانوس ترأس برخمنين على الهند كلهم، فرغب الناس في تلطيف الأبدان، وتهذيب الأنفس. وكان يقول: أي امرئ هذب نفسه وأسرع الخروج عن هذا العالم الدنس، وطهر بدنه من أوساخه؛ ظهر له كل شىء، وعاين كل غائب، وقدر على كل متعذر، وكان محبورا مسرورا، ملتذا عاشقا، لا يمل ولا يكل، ولا يمسه نصب ولا لغوب.

الصفحة 107