كتاب شرح كلمة الإخلاص لابن رجب

يتزوَّجون، ولهم ذرية وأموال؟ {ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذرية} [الرعد:38]، أليسوا يأكلون ويشربون، ويمشون في الأسواق، ويقضون حوائجهم؟ {وَمَا أَرسَلنَا قَبلَكَ مِنَ المُرسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُم لَيَأكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمشُونَ فِي الأَسوَاقِ} [الفرقان:20].
ومع هذا فحبُّهم لله وإقبالُهم عليه لم يُعطِّل عليهم لذَّاتهم الطبيعية، حتى يتركَ الواحدُ منهم أهلَه وولَدَه ولَذَّاتِه، وهي أمورٌ بشريِّةٌ طبيعيَّةٌ.
فهو سبحانه شرع للإنسان أن يأكل ويشرب، و «كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يُحِبُّ الحَلوَى وَالعَسَلَ» (¬1)، وقال صلى الله عليه وسلم: «حُبِّبَ إِليَّ مِن دُنيَاكُمُ النِّسَاءُ والطِّيبُ، وجُعِلَت قُرَّةُ عَينِي في الصَّلاَةِ» (¬2).
ولا شك أن هذه الأقوال التي ساقها المؤلِّف هي في الحقيقة من اجتهاد العُبَّاد الذي تجاوزوا فيه الحدود، وهو من جهلهم، فيُرجَى أن يغفر الله خطأهم ما دام أنَّه صدر منهم عن حسنِ نِيَّةٍ واجتهادٍ، لكن ما خالف الشرع من هذه الأقوال يجبُ رَدُّه على قائِلِه كائناً مَن كان.
فمثل هذه الأقوال يجب ألاَّ تُذكَر وألاَّ يُستَشهَد بها؛ لأنها مخالفةٌ لما جاءت به النصوصُ الشرعيَّة.
¬__________
(¬1) متفقٌ عليه من حديث عائشة رضي الله عنها، أخرجه البخاري (رقم 5115)، ومسلم (رقم 1474).
(¬2) أخرجه النسائي في «المجتبى» (رقم 3939)، وأحمد في «المسند» (رقم 12293)، وأبو يعلى في «مسنده» (رقم 3482)، والبزَّار في «مسنده» (رقم 6879)، وغيرهم من طريق سلام أبي المنذر القارئ ثنا ثابت البناني عن أنسٍ به مرفوعاً.
قال ابن حجر في «الفتح» (11/ 345): (أخرجه النسائي وغيره بسندٍ صحيحٍ)، وصحَّحه أيضاً ابن الملقن في «البدر المنير» (1/ 501)، وقال العراقي في «تخريج أحاديث الإحياء»: (إسناده جيِّد)، وقال الذهبي في «الميزان» (2/ 177): (إسناده قويٌّ).
لكن يُعَكِّر على أحكام هؤلاء الحفَّاظ أن الإمامَ الدارقطني قد أعلَّ هذه الرواية المسندة، وذكر أن بعض الثقات من أصحاب ثابت -ومنهم حماد بن زيد- رووه عن ثابتٍ مرسلاً، ثم قال: (والمرسل أشبه بالصواب). [ينظر: «علل الدارقطني» (رقم 2385)].

الصفحة 110