كتاب شرح كلمة الإخلاص لابن رجب
(مَن عَبَدَ الله بِالحُبِّ وَحدَه فَهو زِندِيقٌ، ومَن عَبَدَه بالرَّجَاء وَحدَه فهو مُرجِئٌ، ومَن عَبَدَه بِالخَوفِ وَحدَه فَهو حَرُورِيٌّ، ومَن عَبَدَه بِالحُبِّ وَالخَوفِ والرَّجَاءِ فهو مُؤمِنٌ مُوَحِّدٌ) (¬1).
فقوله: (من عَبَدَ الله بِالحُبِّ وَحدَه فَهو زِندِيقٌ) وهذا كحال بعض الصوفية، الذين يقولون: نحن لا نعبد الله خوفاً من عذابه ولا طمعاً في ثوابه (¬2)، وهذا كلامٌ منكرٌ (¬3)، (ومَن عَبَدَه بِالخَوفِ وَحْدَه فَهو حَرُورِيٌّ)
¬__________
(¬1) نَسَبَه أبو طالب المكي في «قوت القلوب» (ص 402 - 403)، والغزالي في «إحياء علوم الدين» (4/ 257) إلى التابعي الجليل مكحول الشامي -رحمه الله-.
وهذا القول مشهورٌ ومستفيضٌ نَقْلُه بين الأئمة، فقد ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (10/ 81 و 207) و (11/ 390) و (15/ 21)، وذكره أيضاً ابن القيم في «بدائع الفوائد» (3/ 851 ط: المجمع)، وابن رجب في «التخويف من النار» (ص 29) وغيرهم.
(¬2) أُثِرَ هذا القولُ عن جماعةٍ من أعلام الصوفية المتقدِّمين؛ كأبي سليمان الدَّارَاني، ومعروف الكَرْخي، وذي النُّون المصري، وأبي عبد الله السَّاجِي، ورابعة العَدَوِيَّة، وأبي الحسن علي بن موَّفق وغيرِهم.
(¬3) للشارح - حفظه الله - جوابٌ مفصَّلٌ في بيان نكارة هذا القول، وما يتضمنه من محاذير، فقد سئل - حفظه الله - السؤال التالي:
السؤال: قالت رَابِعَةُ العَدَوِيَّةُ فيما معناه: (يا ربِّ إذا كنتُ أسلمتُ طَمَعَاً في جَنَّتِكَ فَاحْرِمني منها، وإذا كنتُ أسلمتُ خوفاً من نارك فأدخلني فيها، وإذا أسلمتُ طَمَعَاً في رؤية وجهك الكريم فلا تحرمني منه)، أريد دليلاً من الكتاب على صحة قولها هذا.
الجواب: الحمد لله، رَابِعَةُ العَدَوِيَّة عَابِدَةٌ مَشهُورةٌ، وهي من أعلام الصوفية المتقَدِّمين الذين لديهم اجتهادٌ في العبادة، مع جهلٍ بحقيقة ما تُوجِبه الشريعة في باب السلوكِ والسَّيْرِ إلى الله من أحوال القلوب وأعمال الجوارح، وقد أفضى بهم الجهلُ إلى الغلو والتَّنَطُّع في العبادة مما انحرفوا به عن الصراط المستقيم.
ومن ذلك غُلُوُّهم في «المحبَّة»، حتى زعموا أنهم لا يعبدون الله خوفاً ولا رجاءً، وإنما يعبدونه بالمحبَّة، وهذا مخالفٌ لطريق الأنبياء والرُّسل -عليهم الصلاة والسلام- الذين يَدْعُونَ ربهم رَغَبَاً ورَهَبَاً مع حُبِّهم له سبحانه، وابتِغَائِهِم إليه الوَسِيلَة، وتَقَرُّبهم إليه بِمَحَابِّه ومسارعتِهم في ذلك، كما قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90]، وقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [الإسراء:57].
وهذه المقولةُ المنسوبةُ لرَابِعَة مقالةٌ منكَرَةٌ تتضمن الزُّهدَ في الجنَّة والاستخفافَ بعذابِ النَّار، وأمَّا رؤيةُ الله فإنَّها أعلى نعيم الجنَّة، فمن دَخَلَ الجنَّة فَازَ بالنَّظَر إلى وجه الله الكريم، وسَمَاعِ كَلاَمِهِ، قال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، فـ «الحسنى»: الجنَّة، و «الزيادة»: النَّظَر إلى وجه الله.
ويروى معنى هذه المقولة عن رابعة أو غيرِها بلفظ: (إنِّي لا أعبده خوفاً من نَارِه، ولا طَمَعَاً في جنَّتِه، بل أعبده حُبَّاً له).
ولهذا قال بعض أهل العلم: (من عبدَ الله بالخوفِ وحدَه فهو حَرُورِيٌّ، -أي: من الخوارج-، ومَن عَبَدَه بالرَّجَاء فهو مُرجِئٌ، ومن عَبَدَه بالحُبِّ فهو زنديقٌ، ومن عَبَدَه بالحُبِّ والخوفِ والرَّجاءِ فهو مؤمنٌ موَحِّدٌ).
وأسماءُ الله وصفاتُه تقتضي محبَّتَه وخوفَه ورجاءَه، فالله -تعالى- ذو الجمال والجلال والإكرام، وغافرُ الذَّنبِ، وقابلُ التَّوبِ، شديدُ العِقَاب، وكلُّ اسمٍ من أسمائِه الحسنى، وصفةٍ من صفاتِه، تقتضي عبوديةً خاصةً، فمَن كان بأسمائِه وصفاته أعلم كان له أعبد، وعلى صراطه أقوم، والله أعلم.
تتميم: ذكر شيخ الإسلام في كتاب «النبوات» (1/ 343 - 344) (أنَّ الواحدَ من هؤلاء لو جاع في الدنيا أياماً، أو أُلقي في بعض عذابها، طارَ عقْلُه، وخرج من قلبِه كلُّ محبَّةٍ).
ثم ذكر -رحمه الله- نماذج من هذا، فذكر عن سمنون القائل: (وليس لي في سواك حظٌّ ... فكيفما شئتَ فامْتحِنِّي)، أنه لما ابتُلِيَ بعسر البول صار يطوف على المكاتب ويقول: ادعوا لعمِّكم الكذَّاب.
وذكر عن أبي سليمان الدَّارَاني أنه كان يقول: (قد أُعطيتُ من الرِّضا نصيباً لو ألقاني في النّار لكنتُ راضياً)، وأنه ذُكِرَ عنه أنّه لما ابتُليَ بمرضٍ قال: إن لم يُعافني وإلا كفرتُ، أو نحو هذا.
وذكر عن الفضيل بن عياض أنه لما ابتُلي بعُسْر البول، قال: بحبّي لك إلا فرّجتَ عنّي. قال شيخ الإسلام معلِّقاً: (فَبَذَلَ حُبَّه في عسر البول) ثم قال: (فلا طاقة لمخلوق بعذاب الله، ولا غنى به عن رحمته) انتهى.
وينظر أيضاً في الرد على الصوفية في هذا: «الاستقامة» (2/ 104 - 120)، و «مدارج السالكين» (2/ 80 - 81).
الصفحة 113
167