كتاب لسان العرب (اسم الجزء: 14)

لِمَا دخَل النِّداءَ مِنَ الْحَذْفِ والتغييرِ، فأَرادوا أَن يُعَوِّضوا هَذَيْنِ الْحَرْفَيْنِ كَمَا يَقُولُونَ أَيْنُق، لمَّا حَذَفُوا الْعَيْنَ جَعَلُوا الْيَاءَ عِوَضاً، فَلَمَّا أَلحقوا الْهَاءَ صيَّروها بِمَنْزِلَةِ الْهَاءِ الَّتِي تلزَم الِاسْمَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ، وَاخْتُصَّ النِّدَاءُ بِذَلِكَ لِكَثْرَتِهِ فِي كَلَامِهِمْ كَمَا اختصَّ بيا أَيُّها الرَّجُلُ. وَذَهَبَ أَبو عُثْمَانَ الْمَازِنِيُّ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قرأَ يَا أَبَةَ، بِفَتْحِ التَّاءِ، إِلى أَنه أَراد يَا أَبَتَاه فَحَذَفَ الأَلف؛ وَقَوْلُهُ أَنشده يَعْقُوبُ:
تقولُ ابْنَتي لمَّا رأَتْ وَشْكَ رِحْلَتي: ... كأَنك فِينا، يَا أَباتَ، غَريبُ
أَراد: يَا أَبَتَاه، فقدَّم الأَلف وأَخَّر التَّاءَ، وَهُوَ تأْنيث الأَبا، ذَكَرَهُ ابْنُ سِيدَهْ وَالْجَوْهَرِيُّ؛ وَقَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: الصَّحِيحُ أَنه ردَّ لامَ الْكَلِمَةِ إِليها لِضَرُورَةِ الشِّعْرِ كَمَا ردَّ الْآخَرُ لامَ دَمٍ فِي قَوْلِهِ:
فإِذا هِيَ بِعِظامٍ ودَمَا
وَكَمَا ردَّ الْآخَرُ إِلى يَدٍ لامَها فِي نَحْوِ قَوْلِهِ:
إِلَّا ذِراعَ البَكْرِ أَو كفَّ اليَدَا
وَقَوْلُهُ أَنشده ثَعْلَبٌ:
فقامَ أَبُو ضَيْفٍ كَرِيمٌ، كأَنه، ... وَقَدْ جَدَّ مِنْ حُسْنِ الفُكاهة، مازِحُ
فَسَّرَهُ فَقَالَ: إِنما قَالَ أَبو ضَيْف لأَنه يَقْرِي الضِّيفان؛ وَقَالَ العُجَير السَّلُولي:
تَرَكْنا أَبا الأَضْياف فِي لَيْلَةِ الصَّبا ... بمَرْوٍ، ومَرْدَى كُلُّ خَصْمٍ يُجادِلُهْ
وَقَدْ يَقْلِبُونَ الْيَاءَ أَلِفاً؛ قَالَتْ دُرْنَى بِنْتُ سَيَّار بْنِ ضَبْرة تَرْثي أَخَوَيْها، وَيُقَالُ هُوَ لعَمْرة الخُثَيْمِيَّة:
هُما أَخَوا فِي الحَرْب مَنْ لَا أَخا لَهُ، ... إِذا خافَ يَوْمًا نَبْوَةً فدَعاهُما
وَقَدْ زَعَمُوا أَنِّي جَزِعْت عَلَيْهِمَا؛ ... وَهَلْ جَزَعٌ إِن قلتُ وا بِأَبا هُما؟
تريد: وا بأَبي هُما. قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: وَيُرْوَى وابِيَبا هُما، عَلَى إِبدال الْهَمْزَةِ يَاءً لِانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا، وَمَوْضِعُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ رَفْعٌ عَلَى خبر هُما؛ قَالَ ويدلُّك عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ الْآخَرِ:
يَا بِأَبي أَنتَ وَيَا فَوْقَ البِيَبْ
قَالَ أَبو عَلِيٍّ: الْيَاءُ فِي بِيَب مُبْدَلة مِنْ هَمزة بَدَلًا لَازِمًا، قَالَ: وَحَكَى أَبو زَيْدٍ بَيَّبْتُ الرجلَ إِذا قُلْتَ لَهُ بِأَبي، فَهَذَا مِنَ البِيَبِ، قَالَ: وأَنشده ابْنُ السِّكِّيتِ يَا بِيَبا؛ قَالَ: وَهُوَ الصَّحِيحُ لِيُوَافِقَ لفظُه لفظَ البِيَبِ لأَنه مُشْتَقٌّ مِنْهُ، قَالَ: وَرَوَاهُ أَبو الْعَلَاءِ فِيمَا حَكَاهُ عَنْهُ التِّبْرِيزي: وَيَا فَوْقَ البِئَبْ، بِالْهَمْزِ، قَالَ: وَهُوَ مركَّب مِنْ قَوْلِهِمْ بأَبي، فأَبقى الْهَمْزَةَ لِذَلِكَ؛ قَالَ ابْنُ بَرِّيٍّ: فَيَنْبَغِي عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ البِيَب أَن يَقُولَ يَا بِيَبا، بِالْيَاءِ غَيْرَ مَهْمُوزٍ، وَهَذَا الْبَيْتُ أَنشده الْجَاحِظُ مَعَ أَبيات فِي كِتَابِ الْبَيَانِ والتَّبْيين لِآدَمَ مَوْلَى بَلْعَنْبَر يَقُولُهُ لابنٍ لَهُ؛ وَهِيَ:
يَا بِأَبي أَنتَ، وَيَا فَوق البِيَبْ، ... يَا بأَبي خُصْياك مِنْ خُصىً وزُبّ
أَنت المُحَبُّ، وَكَذَا فِعْل المُحِبّ، ... جَنَّبَكَ اللهُ مَعارِيضَ الوَصَبْ
حَتَّى تُفِيدَ وتُداوِي ذَا الجَرَبْ، ... وَذَا الجُنونِ مِنْ سُعالٍ وكَلَبْ
بالجَدْب حَتَّى يَسْتَقِيمَ فِي الحَدَبْ، ... وتَحْمِلَ الشاعِرَ فِي الْيَوْمِ العَصِبْ
عَلَى نَهابيرَ كَثيراتِ التَّعَبْ، ... وإِن أَراد جَدِلًا صَعْبٌ أَرِبْ
الأَرِبُ: العاقِلُ.

الصفحة 10