كتاب تفسير العثيمين: من جزء قد سمع وتبارك - ط مكتبة الطبري

أي: العرق - خجلًا وتحمُّلًا لهذا السؤال العظيم، ثم رفع رأسه قائلًا: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
ما معنى قوله: الاستواء غير مجهول؟
أي: أن الاستواء معلومٌ في اللغة العربية، فإن جميع موارده في القرآن يُعرَف معناها من سياقها، فاستوى وردت في القرآن على ثلاثة أوجه: مُعدَّاة بـ (إلى)، ومُعدَّاة بـ (على)، ومُطلقة غير مُعدَّاةٍ بحرف، واستُعمِلَت أيضًا في اللغة العربية مقرونة بالواو، فاستعمالاتها في اللغة العربية إذًا على أربعة أوجه.
فإذا عُدِّيَت بـ (على): صار معناها العلو والاستقرار، ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ}، ومنه قوله: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ}، ومنه قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}.
والقسم الثاني: مُعدَّاة بـ (إلى): ومنه قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ}، وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا}، وهي هنا بمعنى: القصد؛ أي: قصد إلى السماء، وقيل: بمعنى: على، فلعلماء السلف فيها قولان، وكلاهما لا يُنافي الآخر.
أما القسم الثالث: فأن تأتي مُطلقة غير مُعدَّاة بـ (إلى)، و (على): ومنه قوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى}، وحينئذ تكون بمعنى الكمال، أي: كمال الشيء وانتهائه، فبلغ أشده؛ يعني: بلغ غاية قوته العقلية والجسمية، واستوى؛ أي: تم، ومنه قول العامة إذا طبخوا الطبيخ يقولون: إنه استوى؛ أي: كمُل نضجُه.
أما القسم الرابع: فأن تأتي مقرونة بالواو، وهي في هذا بمعنى: تساوى؛ كقولهم: استوى الماء والخشبة؛ أي: تساويا وصار الماء إلى الخشبة.
إنما نحن نؤمن بأن الاستواء الذي وصف اللّه به نفسه بمعنى: العلو والاستقرار، فإذا قلتَ: أليس اللّه عاليًا على كل شيء؟
فالجواب: بلى، ولكن استواءه على العرش استواءٌ خاصٌّ بالعرش، وليس هو العلو العام لجميع المخلوقات.
وأما قول الإمام مالك رحمه اللّه: والكيف غير معقول، فالمعنى: أننا لا نُدرِك كيفية استواء اللّه بعقولنا، لأن اللّه عز وجل أعظم من أن تُدرِكه العقول، وتُحيط به العقول، كما قال اللّه تعالى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا}، وقال تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ}.
وإذا كان العقل لا سبيل له إلى إدراك كيفية استواء اللّه على عرشه، بقي عندنا السمع، فهل دلَّ السمع على كيفيته؟ لا؛ لأن اللّه أخبرنا أنه استوى على العرش، ولم يُخبرنا: كيف استوى، فإذا انتفى عنه الدليلان: العقلي والسمعي، وجب علينا الكفُّ عنه، وألَّا نسأل عن كيفيته؛ لأن هذا

الصفحة 345