كتاب تفسير العثيمين: من جزء قد سمع وتبارك - ط مكتبة الطبري
الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ}، ولكن الأمر ليس باختياره، وليس بيده، ولا يمكن أن يفتدي بشيء ينفعه. يقول عز وجل: {كَلَّا} فدية، ولا خلاص، ولا وَزَرَ، كما في سورة القيامة: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (٧) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (٨) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (٩) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ}، قال اللّه عز وجل: {كَلَّا لَا وَزَرَ}، ولهذا ينبغي الوقوف على هذه الجملة، ثم تستأنف فتقول: {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ}، لا مُعين، لا مُغيث لا مفر.
{كَلَّا إِنَّهَا لَظَى} ولظى اسم من أسماء النار، {نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} - والعياذ باللّه -، {تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى} ائتِ إليَّ، فيتساقط أهلها فيها.
ثم قال: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} وما معنى هلوعًا؟ فسَّره اللّه {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (٢٠) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} إذا مسَّه الشر، وأُصيب بالفقر جزِع وتضجَّر، وإذا مسَّه الخير، وأُعطي المال الكثير، كان منوعًا لا يُنفِق.
{إِلَّا الْمُصَلِّينَ} وما أنفع الصلاة للقلب، والبدن، والمجتمع، {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}، لم ينجُ من هذا الوصف الذي وُصِف به الإنسان من حيث هو إنسان إلا المُصلِّين {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} لا يملُّون، ولا يسأمون، ولا يُؤخِّرونها عن أوقاتها، ولا يُفرِّطون في واجباتها؛ بل هم دائمون عليها.
{وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} أي: حق معلومٌ شرعًا، أو معلومٌ عُرْفًا، فإن كان مما قدَّره الشرع فهو معلومٌ شرعًا؛ مثل: الزكاة، وإن كان مما لم يُقدِّره الشرع، فهو معلومٌ عُرْفًا؛ كالنفقة.
{لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} السائل الذي يسأل، فالسائل له حقٌّ، فإذا جاءك أحد يسألك فإنك تُعطيه لسؤاله، والمحروم يقول العامة في تفسيره: إنه البخيل الذي حُرِم الانتفاع بماله، ولكن هذا ليس بصحيح، فإن البخيل ليس له حقٌّ في مال الكريم، البخيل يُضرَب حتى يُخرِج ما أوجب اللّه عليه، وإنما المراد بالمحروم: الفقير الذي حُرِم من المال، ولم يُعطَ منه شيءٌ.
{وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} أي: بوقوعه وما يقع فيه، فالإيمان باليوم الآخر يتضمن الإيمان بوقوعه، والإيمان بما يقع فيه، ففيه مثلًا: الحساب، ونشر الكتب، وفيه أيضًا: الميزان، والصراط، ودنو الشمس من الناس، وغير ذلك من الأشياء التي ذُكِرَت في الكتاب والسنة، ومن الإيمان باليوم الآخر: الإيمان بفتنة القبر، ونعيم القبر، وعذاب القبر، أما الفتنة فإن الناس يُفتنون في قبورهم، إذا مات الإنسان ودُفِن وتولى عنه أصحابه، حتى إنه ليسمع قرع نعالهم، أتاه ملكان، فيُقعِدانه، وتُعاد إليه روحه، فيُسأل عن ثلاثة أمور: من ربك، وما دينك، ومن نبيك؟ فيثبِّت اللّه الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
يقول المؤمن: ربي اللّه، وديني الإسلام، ونبي محمد، فيُنادي منادٍ من السماء: أن صدق عبدي،
الصفحة 347
605