كتاب تفسير العثيمين: من جزء قد سمع وتبارك - ط مكتبة الطبري

تفسير سورة نوح
بُعِث نوحٌ إلى قومه فدعاهم إلى اللّه عز وجل سرًّا وعلنًا، ومكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا وهو يدعوهم إلى اللّه، ويبيِّن لهم، ويُحذِّرهم، ويُرغِّبهم، وما آمن معه إلا قليل، وفي هذا عبرةٌ للدعاة الذين يدعون إلى الله عز وجل، ثم يملُّون إذا لم يروا من الناس إقبالًا، فنقول لهم: لا تعجبوا إذا لم تجدوا من الناس إقبالًا، فها هم الرسل يبقون مدة طويلة لا يجدون إقبالًا، لقد بقي محمد رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - في مكة ثلاث عشرة سنة يدعوهم إلى اللّه عز وجل، وفي النهاية أخرجوهم من مكة، ولكن النصر كان فيما بعد والعزة للّه ولرسوله وللمؤمنين، كل إنسان داعية لابد أن يناله أذى، كل إنسان داعية لابد أن يجد من الناس ممانعة، لا يستجيبون له بالسرعة التي يريد، لكن على الدعاة أن يصبروا في الدعوة إلى اللّه، وأن يدعوا إلى اللّه تعالى بالحكمة، والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن؛ لأن من الناس من يدعو إلى اللّه وهو يُنفِّر عن اللّه، فتجده يدعو بعنف، وبدون إقناع، والنفوس تحتاج إلى اللين واللطف، وتحتاج إلى إقناع، حتى يُقبِل الناس عن اقتناع إلى دين الله، ويأخذوا بما دعا إليه هذا المُصلِح الذي يدعو إلى اللّه تبارك وتعالى من غير أن يمسَّ المجتمع بما يُشوِّش عليه، وما يُوغر صدوره على ولاة أموره.
إذن نقول: لا تعجب أيها الداعي إلى الله إذا تأخَّرت الإجابة، فإن اللّه قد يبتلي الداعي إلى الله عز وجل بتأخُّر قبول الناس وإجابتهم حتى يمتحنه أصادقٌ هو في الدعوة إلى الله، أم ليس بصداق؟
نوح عليه الصلاة والسلام بقي في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا يدعوهم إلى اللّه.
يقول عليه الصلاة والسلام في هذه السورة: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا} [نوح: ٥، ٦] أتظنون أنه يدعوهم بدون آيات تدل على أنه رسول اللّه؟ لا، يدعوهم بالآيات التي تدل على أنه رسول اللّه، ومع ذلك لم يستجيبوا؛ بل لم يزده دعاؤه إياهم إلا فرارًا.

الصفحة 352