كتاب تفسير العثيمين: من جزء قد سمع وتبارك - ط مكتبة الطبري
{وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} لئلا يسمعوا {وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} يعني: تغطَّوا بها لئلا يروا؛ لأنهم يخشون إذا سمعوا شيئًا يدخل مسامعهم حتى يصل إلى قلوبهم، يخشون أن يؤمنوا بذلك، فأرادوا أن يسدُّوا طرق الهدى عنهم، كذلك يخشون أن يروا الآيات بأعينهم ثم يُلجئهم ذلك إلى الإيمان، فصاروا يستغشون ثيابهم حتى لا يروا الآيات - والعياذ باللّه -، وهذا دليل على شدة استكبارهم ونفورهم.
ويُستفاد من قوله: {لِتَغْفِرَ لَهُمْ}: أنهم لو تابوا لغُفِر لهم، وهذا شأن اللّه عز وجل بعباده أن الإنسان كلما تاب إلى اللّه ولو عظُمَ الذنب فإن اللّه يغفر له، واستمع إلى قول اللّه تعالى في هذه الأمة؛ حيث أمر نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - أن يقول: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} مهما عظُم، مع أن هؤلاء يسبُّون اللّه، ويسبُّون رسوله، ويسبُّون دينه، وقال: {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}.
نوح عليه الصلاة والسلام أول الرسل يقول: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا} على الكفر والعناد {وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} أي: استكبروا استكبارًا عظيمًا.
{ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} ولكن أبَوا، {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (١٠) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} فانظر كيف رغَّبَهم أولًا بثواب الآخرة، وثانيًا بثواب الدنيا، ثواب الآخرة في قوله: {لِتَغْفِرَ لَهُمْ}، ثواب الدنيا في قوله: {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} يعني: أمطارًا دارَّة، كلما جفَّت الأرض أمطرت السماء، {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} ولكن مع هذا الزغيب أبوا واستكبروا، وما آمن معه إلا قليل، حتى إن أحد أبنائه كفر به - نسأل اللّه العافية -، ولما وعد اللّه نوحًا أن يُنجِّيه وأهله صرف الله ابنَه عن الإيمان، وعن الركوب في السفينة التي نجا بها نوح ومن معه، فقال له أبوه: {يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} ماذا قال؟ {قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} فاعتمد على الأمور الحِسِّية دون الأمور الإلهية، ولكن هل عصمه الجبل من الماء؟ أبدًا، ما عصمه، قال له أبوه: {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود: ٤٣]، وبذلك تُعرَف قدرة اللّه عز وجل، وأنه سبحانه وتعالى ليس له بينه وبين خلقه نسب، وليس بينه وبين خلقه صلة إلا بشيء واحد، وهو التقوى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: ١٣].
الصفحة 353
605