كتاب تفسير العثيمين: من جزء قد سمع وتبارك - ط مكتبة الطبري

تفسير سورة الإنسان
قال اللّه تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ}.
الاستفهام هنا للتحقيق، والمعنى: قد أتى على الإنسان حينٌ من الدهر لم يكن شيئًا مذكورًا، وهذا حقٌّ، فإن الإنسان قبل أن يُخلَق هل هو شيءٌ مذكور؟ لا، وقد أتى عليه حينٌ من الدهر طويل لم يكن شيئًا مذكورًا، ولا يُعرَف عن فلان الذي خُلِق بعد ذلك.
وبيَّن اللّه عز وجل ابتداء هذا الخلق، فقال: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا}.
النطفة هي الماء القليل، والمراد بها هنا: منيُّ الرجل، والأمشاج هي كما قال المتأخرون: هي الحيوانات المنويَّة، فإن هذه النطفة تشتمل على حيوانات منوية كثيرة جدًّا.
ومعنى قوله تعالى: {نَبْتَلِيهِ} أي: نختبره، وذلك بخلق السمع والبصر له، ولهذا قال: {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} وهذا اختبار من اللّه ليختبر العبد في ماذا يستعمل هذا السمع، وفي ماذا يستعمل هذا البصر، قد يستعمل الإنسان سمعَه في الاستماع إلى ما حرَّم اللّه؛ كالاستماع إلى الأغاني الماجنة، والاستماع إلى الموسيقى وآلات الطرب، إلا ما استُثنِي منها، ومما استُثنِي من آلات الطرب: الدف في الأفراح والأعراس؛ في الأفراح: كأيام الأعياد، وفي الأعراس: كأيام الدخول، دخول الإنسان بزوجته، فإن هذا مما رُخِّص فيه.
ويبتلي الله عز وجل الإنسان بالبصر، أعطاه البصر ليبتليه؛ ينظر هل يُبصِر فيما أحلَّ اللّه له، أو فيما حرَّم اللّه عليه، ومن الإبصار فيما حرَّم اللّه عليه: أن يُطلِق الإنسان بصرَه بالنظر إلى ما حرَّم اللّه؛ كنظر المرأة الأجنبية، ونظر الصور الخالعة، وما أشبه ذلك، فجعل اللّه للإنسان سمعًا وبصرًا ابتلاءً واختبارًا.
ثم بيَّن عز وجل أنه هدى الإنسان السبيل؛ أي: بيَّن له الطريق {إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} أي:

الصفحة 356