كتاب تفسير العثيمين: من جزء قد سمع وتبارك - ط مكتبة الطبري
بيَّن اللّه الطريق للإنسان سواءً كان شاكرًا أو كان كفورًا.
فمن هو الإنسان الشاكر الذي يشكر نعمة الله على هدايته لهذا الطريق؟ هو المؤمن، والكافر هو الجاحد لهذه النعمة، فانقسم الناس بعد هداية اللّه لهم إلى قسمين:
إلى شاكرٍ قام بطاعة المُنعِم، وإلى كافرٍ جحَدَ نعمة المُنعِم، ولم يقُم بالشكر ولا بالطاعة.
ثم بيَّن اللّه بعد ذلك جزاء هؤلاء وهؤلاء، فقال: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا} أعتدنا بمعنى: هيّأنا، والسلاسل: ما يُربَط به المُجرِم الكافر، والأغلال: أن تُغلَّ يداه إلى عُنُقه، والسعير: النار المُحرِقة - والعياذ بالله -.
وهذا الجزاء مُجمَلٌ في ثلاث كلمات: {سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا}.
ثم انتقل عز وجل إلى الأبرار الذين هم ضد الكافرين والفُجَّار، فقال: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (٥) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان: ٥، ٦]، وأطال سبحانه وتعالى في وصف ثواب الأبرار؛ لأن اللّه تعالى فصَّل أعمالهم، فقال: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (٧) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (٨) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (٩) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان: ٧ - ١٠]، فتجِدون أن الله عز وجل فصَّل أعمالهم، وكان مُقابِل هذا التفصيل في الأعمال أن يُقابَل ذلك بتفصيل الجزاء، أما الكفار فإن اللّه ذكر عملهم مُجمَلًا، فذُكِر جزاؤهم مجُمَلًا، وهذا من بلاغة القرآن.
فلو قال قائل: لماذا أطال اللّه عز وجل في ذكر ثواب الأبرار، وأجمل في ذكر جزاء الكافرين؟
الجواب: لأن اللّه فصَّل أعمال الأبرار في عدة آيات: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ}، {وَيَخَافُونَ يَوْمًا}، {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ}، {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ}، {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا}، فذكر أعمالًا مُتعدِّدة، فكان مقابل ذلك أن يُذكر جزاؤهم مُفصَّلًا كما ذُكِرت أعمالهم مُفصَّلة، أما الكفار فذُكِرت أعمالهم مُجمَلة، وكان مُقابل ذلك أن يُذكَر جزاؤهم مُجمَلًا.
يقول اللّه تعالى: {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} [الإنسان: ٢١]، وفي آيات أخرى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج: ٢٣]، فهل هناك تناقُض بين هذه الآيات؟
الجواب: لا؟ بل هم يُحلَّون بحُليٍّ بعضُه فضة، وبعضُه ذهب، وبعضُه لؤلؤ، وأنت تصوَّر لو تجد الحُلِي بالفضة البيضاء اللامعة، والذهب الأحمر، واللؤلؤ الصافي لوجدتَ منظرًا عظيمًا يُطرِب
الصفحة 357
605