كتاب تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن (اسم الجزء: 14)
الثَّانِيَةُ: مُشَاوَرَةُ السُّلْطَانِ أَصْحَابَهُ وَخَاصَّتَهُ فِي أَمْرِ الْقِتَالِ، وَقَدْ مَضَى ذَلِكَ فِي" آلِ عِمْرَانَ «١»، وَالنَّمْلِ". وَفِيهِ التَّحَصُّنُ مِنَ الْعَدُوِّ بِمَا أَمْكَنَ مِنَ الْأَسْبَابِ وَاسْتِعْمَالُهَا، وَقَدْ مَضَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. وَفِيهِ أَنَّ حَفْرُ الْخَنْدَقِ يَكُونُ مَقْسُومًا عَلَى النَّاسِ، فَمَنْ فَرَغَ مِنْهُمْ عَاوَنَ مَنْ لَمْ يَفْرُغْ، فَالْمُسْلِمُونَ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، وَفِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ الْأَحْزَابِ وَخَنْدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَيْتُهُ ينقل من تراب الخندق وَارَى عَنِّي الْغُبَارُ جِلْدَةَ بَطْنِهِ، وَكَانَ كَثِيرَ الشَّعْرِ، فَسَمِعْتُهُ يَرْتَجِزُ بِكَلِمَاتِ ابْنِ رَوَاحَةَ وَيَقُولُ:
اللَّهُمَّ لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا ... وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا
فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا ... وَثَبِّتِ الْأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا
وَأَمَّا مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَهِيَ: الثَّالِثَةُ- فَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ أَبِي سُكَيْنَةَ رَجُلٌ مِنَ الْمُحَرَّرِينَ «٢» عَنْ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ عَرَضَتْ لَهُمْ صَخْرَةٌ حَالَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْحَفْرِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخَذَ الْمِعْوَلَ وَوَضَعَ رِدَاءَهُ نَاحِيَةَ الْخَنْدَقِ وَقَالَ:" وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً" «٣» [الانعام: ١١٥] الْآيَةَ، فَنَدَرَ «٤» ثُلُثُ الْحَجَرِ وَسَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ قَائِمٌ يَنْظُرُ، فَبَرَقَ مَعَ ضَرْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرْقَةً، ثُمَّ ضَرَبَ الثَّانِيَةَ وقال:" وَتَمَّتْ" [الانعام: ١١٥] الْآيَةَ، فَنَدَرَ الثُّلُثُ الْآخَرُ، فَبَرَقَتْ بَرْقَةً فَرَآهَا سَلْمَانُ، ثُمَّ ضَرَبَ الثَّالِثَةَ وَقَالَ:" وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً" الْآيَةَ، فَنَدَرَ الثُّلُثُ الْبَاقِي، وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ وَجَلَسَ. قَالَ سَلْمَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَأَيْتُكَ حِينَ ضَرَبْتَ! مَا تَضْرِبُ ضَرْبَةً إِلَّا كَانَتْ مَعَهَا بَرْقَةٌ؟ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (رَأَيْتَ ذَلِكَ يَا سَلْمَانُ)؟ فَقَالَ: أَيْ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: (فَإِنِّي حِينَ ضَرَبْتُ الضَّرْبَةَ الْأُولَى رُفِعَتْ لِي مَدَائِنُ كِسْرَى وَمَا حَوْلَهَا وَمَدَائِنُ كَثِيرَةٌ حَتَّى رَأَيْتُهَا بِعَيْنَيَّ- قَالَ لَهُ مَنْ حَضَرَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ: يَا رَسُول اللَّهِ،
---------------
(١). راجع ج ٤ ص ٢٤٩ فما بعد. وج ١٣ ص ١٩٤.
(٢). أي المعتق من النار.
(٣). راجع ج ٧ ص ٧١. [ ..... ]
(٤). ندر: سقط.
الصفحة 130