كتاب تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن (اسم الجزء: 14)

إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ وَقَالُوا: وَاللَّهِ لَا نُعْطِيكُمْ رُهُنًا أَبَدًا فَاخْرُجُوا مَعَنَا إِنْ شِئْتُمْ وَإِلَّا فَلَا عَهْدَ بَيْنِنَا وَبَيْنَكُمْ. فَقَالَ بَنُو قُرَيْظَةَ: صَدَقَ وَاللَّهِ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ. وَخَذَّلَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ، وَاخْتَلَفَتْ كَلِمَتُهُمْ، وَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ رِيحًا عَاصِفًا فِي لَيَالٍ شَدِيدَةِ الْبَرْدِ، فَجَعَلَتِ الرِّيحُ تَقْلِبُ آنِيَتَهُمْ وَتَكْفَأُ قُدُورَهُمْ. السَّابِعَةُ- فَلَمَّا اتَّصَلَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اخْتِلَافُ أَمْرِهِمْ، بعث حذيفة ابن الْيَمَانِ لِيَأْتِيَهُ بِخَبَرِهِمْ، فَأَتَاهُمْ وَاسْتَتَرَ فِي غِمَارِهِمْ «١»، وَسَمِعَ أَبَا سُفْيَانَ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، لِيَتَعَرَّفْ كُلُّ امْرِئٍ جَلِيسَهُ. قَالَ حُذَيْفَةُ: فَأَخَذْتُ بِيَدِ جَلِيسِي وَقُلْتُ: وَمَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ: أَنَا فُلَانٌ. ثُمَّ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَيْلَكُمْ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ! إِنَّكُمْ وَاللَّهِ مَا أَصْبَحْتُمْ بِدَارِ مُقَامٍ، وَلَقَدْ هَلَكَ الْكُرَاعُ وَالْخُفُّ «٢» وَأَخْلَفَتْنَا بَنُو قُرَيْظَةَ، وَلَقِينَا مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ مَا تَرَوْنَ، مَا يَسْتَمْسِكُ لَنَا بِنَاءٌ، وَلَا تَثْبُتُ لَنَا قِدْرٌ، وَلَا تَقُومُ لَنَا نَارٌ، فَارْتَحِلُوا فَإِنِّي مُرْتَحِلٌ، وَوَثَبَ عَلَى جَمَلِهِ فَمَا حَلَّ عِقَالَ يَدِهُ إِلَّا وَهُوَ قَائِمٌ. قَالَ حُذَيْفَةُ: وَلَوْلَا عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِي إِذْ بَعَثَنِي، قَالَ لِي: (مُرَّ إِلَى الْقَوْمِ فَاعْلَمْ مَا هُمْ عَلَيْهِ وَلَا تُحْدِثْ شَيْئًا) - لَقَتَلْتُهُ بِسَهْمٍ، ثُمَّ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ رَحِيلِهِمْ، فَوَجَدْتُهُ قَائِمًا يُصَلِّي فِي مِرْطٍ لِبَعْضِ نِسَائِهِ مَرَاجِلَ- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْمَرَاجِلُ ضَرْبٌ مِنْ وَشْيِ الْيَمَنِ- فَأَخْبَرْتُهُ فَحَمِدَ اللَّهَ. قُلْتُ: وَخَبَرُ حُذَيْفَةَ هَذَا مَذْكُورٌ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَفِيهِ آيَاتٌ عَظِيمَةٌ، رَوَاهُ جَرِيرٌ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ حُذَيْفَةَ فَقَالَ رَجُلٌ لَوْ أَدْرَكْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاتَلْتُ مَعَهُ وَأَبْلَيْتُ. فَقَالَ حُذَيْفَةُ: أَنْتَ كُنْتَ تَفْعَلُ ذَلِكَ! لَقَدْ رَأَيْتُنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْأَحْزَابِ وَأَخَذَتْنَا رِيحٌ شَدِيدَةٌ وَقَرٌّ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ألا رَجُلٌ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ جَعَلَهُ اللَّهُ مَعِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ)؟ فَسَكَتْنَا فَلَمْ يُجِبْهُ مِنَّا أَحَدٌ، ثُمَّ قَالَ: (أَلَا رَجُلُ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ جَعَلَهُ اللَّهُ مَعِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ)؟ فَسَكَتْنَا فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ. فَقَالَ: (قُمْ يَا حُذَيْفَةُ فَأْتِنَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ) فَلَمْ أَجِدْ بُدًّا إِذْ دَعَانِي بِاسْمِي أَنْ أَقُومَ. قَالَ: (اذْهَبْ فَأْتِنِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ وَلَا تَذْعَرهُمْ «٣» عَلَيَّ) قَالَ: فَلَمَّا وَلَّيْتُ من عنده جعلت كأنما
---------------
(١). مثلث الغين.
(٢). الكراع: اسم يجمع الخيل. والخف: اسم يجمع الإبل.
(٣). الذعر: الفزع يريد لا تعلمهم بنفسك وامش في خفية لئلا ينفروا منك ويقبلوا علي.

الصفحة 137