كتاب التمهيد - ابن عبد البر - ت بشار (اسم الجزء: 14)
إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا}. فقال سعيد: إن كان عندَه مالٌ فكاتِبْه، وإن لم يكنْ عندَه مال، فلا تُعَلِّقْه صحيفة يغدُو بها على الناس ويروح، فيسألُهم فيحرِجُهم فيُؤثِمُهم. فقال الحسن: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا}: صدقًا وأمانة، مَن أعطاه كان مأجورًا، ومن سُئِل فرَدَّ خيرًا كان مأجورًا (¬١).
قال أبو عُمر: قد رخَّص مالكٌ، وأبو حنيفة، والشافعيُّ، في مكاتبةِ مَن لا حِرفةَ له، وإن كان قد اختَلف قولُ مالكٍ في ذلك (¬٢). وكرِه الأوزاعيُّ وأحمدُ وإسحاق مكاتبةَ مَن لا حرفةَ له (¬٣)، ورُوِيَ نحوُ ذلك عن عمر، وابنِ عمر، ومسروق (¬٤). والحجَّةُ في السُّنةِ لا فيما خالفَها.
وفي حديث بَريرَةَ هذا دلالةٌ على أنَّ قولَ الله عزَّ وجلَّ: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا}. أنَّه الكسبُ؛ لأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يَسألْ بَريرَة: أمعكِ مالٌ أم لا؟ ولم يَنهَها عن السؤال، وقد يكونُ الكسبُ بالمسألة، وقد قيل: المسألةُ آخِرُ كسبِ المؤمن (¬٥). وقد كُوتبَت بَريرَةُ ولم يُعلَمْ لها كسبٌ واجب، واللهُ أعلم، ولم ينكِرْه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -.
---------------
(¬١) أخرجه البيهقي في الكبرى ١٠/ ٣١٨ (٢٢١٣٠) من طريق سعيد بن منصور عن إسماعيل بن إبراهيم بن علية عن يونس بن عبيد العبدي، به.
(¬٢) ينظر: الأمّ للشافعيّ ٢/ ٨٨، والمدوّنة ٢/ ٤٧٣.
(¬٣) ينظر: مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهوية لإسحاق بن منصور الكوسج ٨/ ٤٤٠٧، ٤٤٠٧ (٣٠٤٩). ولكن نقل ابن قدامة في المغني ١٠/ ٣٦٦ - ٣٦٧ عن أحمد بن حنبل رواية أخرى: أنه لا يُكْرَه، ووَجْه ذلك ما نقله عن ابن المنذر أن بريرة كاتبت ولا حِرْفة لها، ولم يُنكر ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وينظر الإقناع لابن المنذر ٢/ ٤٢٣ - ٤٢٤.
(¬٤) ينظر: المصنِّف لعبد الرزاق ٨/ ٣٧٤، وتفسير ابن جرير الطبري ١٩/ ١٧٨، والأوسط لابن المنذر ١١/ ٤٦٥.
(¬٥) قوله: "آخِرُ كسْبِ المؤمن" قال القاضي عياض في المشارق ١/ ٢١: "مقصور؛ أرذله وأدْناه، وإن كان الخطابيُّ قد رواه بالمدِّ وحمله على ظاهره، وأنّ معناه: أنّ ما كنتم تقدرون على معيشةٍ من غيرها - يعني المسألة - فلا تسألوا". وقال ابن الأثير في النهاية ١/ ٢٩: "ويُروى بالمدّ، أي إن السؤال آخِرُ ما يكتسب به المرءُ عند العجز عن الكسب".
وينظر ما سيأتي في سياق شرح الحديث الثالث ليحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيِّب.