كتاب تفسير الألوسي = روح المعاني (اسم الجزء: 14)

من الصفات التي تجعلها أعلى من وجه وأدنى من آخر إذا نظر لها ذو نظر صحيح، وقيل: الترتيب بالنظر إلى الأقرب فالأقرب منا، وإن حملت على واحد وهو الرياح فهي لترتيب الأفعال والصفات إذ الريح تذر الأبخرة إلى الجو أولا حتى تنعقد سحابا فتحمله ثانيا وتجري به ثالثا ناشرة وسائقة له إلى حيث أمرها الله تعالى ثم تقسم أمطاره، وقيل: إذا حملت الذاريات والحاملات على النساء، فالظاهر أنها للتفاوت في الدلالة على كمال القدرة فتدبر.
ونصب ذَرْواً على أنه مفعول مطلق، ووِقْراً على أنه مفعول به، وجوز الإمام أن يكون من باب ضربته سوطا، ويُسْراً على أنه صفة مصدر محذوف بتقدير مضاف أي جريا ذا يسر، أو على أنه حال أي ميسرة كما نقل عن سيبويه، وأَمْراً على أنه مفعول به وهو واحد الأمور، وقد أريد به الجمع ولم يعبر به لأن الفرد أنسب برؤوس الآي مع ظهور الأمر، وقيل على أنه حال أي مأمورة، والمفعول به محذوف أو الوصف منزل منزلة اللازم أي تفعل التقسيم مأمورة، وقرأ أبو عمرو وحمزة وَالذَّارِياتِ ذَرْواً بإدغام التاء في الذال، وقرىء «وقرا» بفتح الواو على أنه مصدر وقره إذا حمله- كما أفاده كلام الزمخشري- وناهيك به إماما في اللغة، وعلى هذا هو منصوب على أنه مفعول به أيضا على تسمية المحمول بالمصدر أو على أنه مفعول مطلق- لحاملات- من معناها كأنه قيل:
فالحاملات حملا. وقوله تعالى شأنه: إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ جواب للقسم، و (ما) موصولة والعائد محذوف أي إن الذي توعدونه، أو توعدون به، ويحتمل أن تكون مصدرية أي إن وعدكم، أو وعيدكم إذ توعدون يحتمل أن يكون مضارع وعد، وأن يكون مضارع أوعد، ولعل الثاني أنسب لقوله تعالى: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ [ق: 45] ولأن المقصود التخويف والتهويل، وعن مجاهد أن الآية في الكفار وهو يؤيد الوعيد ومعنى صدقة تحقق وقوعه، وفي الكشاف وعد صادق- ك عِيشَةٍ راضِيَةٍ [الحاقة: 21]- والدِّينَ الجزاء ووقوعه حصوله، والأكثرون على أن الموعود هو البعث، وفي تخصيص المذكورات بالإقسام بها رمز إلى شهادتها بتحقق الجملة المقسم عليها من حيث إنها أمور بديعة فمن قدر عليها فهو قادر على تحقيق البعث الموعود وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ أي الطرق جمع حبيكة كطريقة، أو حباك كمثال ومثل، ويقال: حبك الماء للتكسر الجاري فيه إذ مرت عليه الريح، وعليه قول زهير يصف غديرا:
مكلل بأصول النجم تنسجه ... ريح خريق لضاحي مائه حبك (¬1)
وحبك الشعر لآثار تثنية وتكسره، وتفسيرها بذلك مروي عن مقاتل والكلبي والضحاك، والمراد بها إما الطرق المحسوسة التي تسير فيها الكواكب، أو المعقولة التي تدرك بالبصيرة وهي ما تدل على وحدة الصانع وقدرته وعلمه وحكمته جل شأنه إذا تأملها الناظر، وقال ابن عباس وقتادة وعكرمة ومجاهد والربيع: ذات الخلق المستوي الجيد، وفي رواية أخرى عن مجاهد المتقنة البنيان، وقيل: ذات الصفاقة وهي أقوال متقاربة وكأن الحبك عليها من قولهم:
حبكت الشيء أحكمته وأحسنت عمله وحبكت العقدة أوثقتها، وفرس محبوك المعاقم- وهي المفاصل- أي محكمها، وفي الكشف أصل الحباكة الصفاقة وجودة الأثر، وعن الحسن- حبكها- نجومها، والظاهر أن إطلاق الحبك على النجوم مجاز لأنها تزين السماء كما يزين الثوب الموشى حبكه وطرائق وشيه فكأنه قيل: ذات النجوم التي هي كالحبك أي الطرائق في التزيين، واستظهر في السماء أنه جنس أريد به جميع السماوات وكون كل واحدة
¬__________
(¬1) قوله: «مكلل» مجرور على الوصف في قوله: قبله ثم استعانت- ماء مكلل- ذلك الماء بأصول النبات وصارت حوله كالإكليل، «والخريق» الريح الباردة الشديدة الهبوب و «الضاحي» الظاهر، و «حبك الماء طرائفة» . اهـ.

الصفحة 5